تتعرّض الجبال والصخور لتأثير التغيّرات المناخيّة وتقلّبات الطقس، ما يجعلها عرضة لعوامل التفتيت والتعرية فتتغيّر أشكالها وتتقلّص أحجامها لتختفي بعد ذلك. ولكنّ هذه العمليّة تستغرق آلاف السنين لا بل ملايين السنين، ولا يستطيع الإنسان شيئًا حيال ذلك، لا بل هو يساهم في تلويث البيئة وتكسير الصخور وقطع الأشجار وجرف التراب. وإذا كان فعل الإنسان مرفوضًا حيال الطبيعة فهل هو كذلك حيال قممنا الإبداعيّة؟
يحلو للبعض أن يعتبر أنّ الأسماء "الكبيرة" في تاريخنا الإبداعيّ غير قابلة للنقد ولا يجوز أن تتطاول عليها أقلام وألسنة. وإذا كان في هذا الكلام بعض الصحّة فلا يعني ذلك أنّه غير قابل كذلك للنقد والتحليل والاعتراض. فالمبدع إنسان يخطئ ويصيب، ينجح ويفشل، وإذا كان من غير المقبول التحطيم والتهشيم والتجريح فالنقد العلميّ مطلوب، وما من مقدّسّات في هذا المجال. لا أحد ينكر مثلاً أنّ ما كتبه الأخوان رحباني وصل في إلى مرتبة من الشعر راقية وسامية تكاد تعجزنا عن الحديث عنها، غير أنّ هذا لا يعني أنّهما لم يكتبا كلمات لا علاقة لها بالشعر، ولولا اللحن وصوت فيروز لما وجد فيها أحد قيمة فنيّة. حتّى فيروز ليست بمنأى عن المساءلة، غير أنّ الناس اعتادوا على الانتقال من التفخيم والتعظيم إلى التهشيم والتحطيم من دون سبب عقلانيّ أو تحليل منطقيّ وفي أغلب الأحيان بالقلم نفسه. فحين غنّت فيروز في ساحة البرج هاجمتها الأقلام نفسها التي دافعت عنها حين قدّمت مسرحيّة "صحّ النوم" في دمشق. ففي المناسبة الأولى اعتبرها بعض النقّاد منحازة إلى مشروع رفيق الحريري وتغنّي على حساب أصحاب الأملاك الذين خسروا أملاكهم في وسط بيروت، في حين رأى فيها آخرون الصوت المبشّر بعودة الحياة إلى عاصمة لبنان. وفي المناسبة الثانية رأى من هاجمها أنّها عادت إلى قواعدها سالمة، أمّا الآخرون فشعروا أنّها خانتهم. وفي المرّتين غابت إلى حدّ كبير القراءات النقدّية العلميّة، والأخطر من ذلك أن يروح البعض إلى حدّ القول: هي محقّة في كلّ ما تفعله، فهي فيروز ولا يجوز الشكّ في تصرّفاتها.
وإذا كان مارسيل خليفة غنّى للثورة الفلسطينيّة أجمل القصائد وجعل شعر محمود درويش في متناول عامّة الناس، فهذا لا يعني ألاّ يكون لنا موقف من تركه لبنان والإقامة في فرنسا مع العلم أن لا خطر على حياته ولا موانع تعيق تحليقه الفنيّ، من دون أن ننسى أنّ الثروة التي جمعها وتسمح له بالإقامة في الخارج هي من أموال دفعها باعة الخضار الذين ذكرهم في أغنياته، والثوّار الذين يقيمون تحت القصف والنار، والفقراء الذين حرموا أنفسهم من رغيف خبز ليشتروا بطاقة لإحدى حفلاته التي صارت نادرة بعدما انتهت "ثورته" وبسبب غضبه على الناس العاديين الذين لا يرون فيه إلاّ مغنّي الحرب، ولم يواكبوا مسيرته الموسيقيّة ولم يتطوّروا معها. ولا أعرف إن كان مارسيل خليفة يسأل نفسه وهو الذي قاد الجماهير في طريق الثورة، لماذا عجز عن الارتقاء بهم إلى المستوى الذي وصل إليه.
من السهل الانتقال من هذين المثلين إلى مختلف وجوه الحياة الإبداعيّة وفي كلّ المجالات التي لا نستطيع ذكرها في هذه العجالة، لنقول إنّ الخوف على صورة مبدعينا لا يعني الخوف منهم، وإنّ عوامل التفتيت والتعرية قد تغيّر معالم الجغرافيا، ولكنّ هذه العوامل نفسها هي التي جعلت مغارة جعيتا أعجوبة طبيعيّة رائعة. وبالتالي ثمّة خيط رفيع وهشّ يفصل بين أن نرفع مبدعينا إلى قمم المجد ونأسرهم عليها وننحني أمامهم خاشعين، وبين أن نخضعهم لمزاجيتنا وآرائنا ورغباتنا. وفي الحالين الأمر ليس صحيًّا للجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق