الخميس، 5 نوفمبر 2009

الكتب والمتاحف والحياة

حين أصدرت كتابيّ الأوّلين: لأنّك أحيانًا لا تكون ورسائل العبور، كنت قد قرّرت ألاّ يكونا صالحين للمتاحف بل للحياة. كنت أتخيّل كتبي في حقائب اليد النسائيّة إلى جانب أقلام تخطيط الشفاه التي تخطّط في الوقت نفسه للقاءات، والمرايا التي تقول لكلّ واحدة: أنت أجمل النساء، وعلى طاولات المقاهي تشرب القهوة أو النسكافة أو الشاي ويتناثر عليها رماد السجائر وينتقدها رجال قرأت كلّ ما كتبوه وهم الذين علّموني الكتابة، أو هي على الطاولة إلى جانب السرير، أو تحت المخدّة، أو معرّضة للشمس والمياه عند شاطئ البحر، مبقّعًة بزيت الاسمرار ومملّحة بالرطوبة. كنت أتخيّل صفحات كتابيّ وقد كتبت عليها تعليقات القرّاء (لا يهمّ كم هو عددهم)، وآراؤهم وإضافاتهم ورسوماتهم الساذجة.
وحين سألني الناشر عمّا أريد لكتابيّ الجديدين، قلت له: الشكل نفسه لأنّ الهدف لا يزال هو نفسه. لا أريد الورق الفاخر، ولا الغلاف النيّق، ولا الحجم الباهر، لا أريد كتابًا للعرض في المكتبات تختاره سيّدات الصالونات لأنّ لون غلافه الجلديّ الصقيل يلائم لون الأثاث والسجّاد، بل كتابًا تتبادله الأيدي كالمنشورات، كالصحف اليوميّة، ولا يخشى صاحبه عليه من القراءة أو الغبار أو تقلّبات الزمن أو لصوص المكتبات الظرفاء، وهم دائمًا من الأصدقاء.
بعض الكتب، قلت للناشر، غلافها أجمل من مضمونها، وورقها يدفعك للبكاء على الأشجار التي تحوّلت في مجزرة رهيبة من غابة تعشش فيها الطيور إلى كتب يحتلّها الغبار، وثمنها يجبرك على التفكير قليلاً قبل الإقدام على مغامرة شرائها. لا أريد لكتبي يا ناشر كتبي أن يخاف الناس عليها بل منها، أن تضيء كلماتها ليل عقولهم، أن تقلق نومهم، أن تزعج سكينتهم، أن تثير حفيظتهم، أن تشعل غضبهم، أن تدفعهم لكي يقوموا ولو بعمل واحد مختلف عمّا اعتادوا على فعله كلّ يوم، وإلاّ فلن أكون أنا التي أكتب، ولن تكون كتاباتي هي الكتابات التي رغبت دائمًا في كتابتها.
*****
من تحقيق إخباريّ بثّته "العربيّة" عن المطالعة حفظت ما يلي: الأميركيّ يقرأ ما معدّله أحد عشر كتابًا في السنة، والبريطانيّ يقرأ ما معدّله سبعة كتب أمّا العربيّ فيقرأ ربع صفحة في السنة.
ربع صفحة في السنة؟ لا بأس، فلا شكّ في أنّ هناك قبيلة في مكان ما من العالم لا تقرأ كلمة واحدة طوال السنة، أمّا نحن فنقرأ في الفنجان، ونقرأ تحرّكات الكواكب، ونقرأ ما تخطّه الريح على الرمال، ونقرأ ما يرسله الناس إلى المحطّات الفضائيّة التي تبثّ الأغنيات فنسمع شعر عاصي الرحباني وأحمد رامي ونقرأ في أسفل الصفحة كلامًا سخيفًا يوجّهه شاب يبحث عن عمل لشابّة تبحث عن مغامرة.
نحن نقرأ الكلمات على لوحات الإعلانات، ونقرأ رسائل أصدقائنا عبر الفايس بوك والهاتف المحمول، ونقرأ ما تقوله الأبراج في الصحف، ونقرأ علامات الاشمئزاز على وجوه زعمائنا حين نطلب منهم تحقيق ما وعدونا به، ونقرأ ما يقوله ورق اللعب، ونقرأ ترجمات الأفلام.
نحن نقرأ إذًا، وليس هدفنا من القراءة أن نحقّق أرقامًا قياسيّة أو نسبق سوانا في الإحصاءات. نحن اخترعنا الحرف. ألا يكفي هذا الجهد؟ ونشرنا الكتب المقدّسة ليقرأها الآخرون لأنّنا نحفظ غيبًا ما فيها، فهل يجوز أن نأخذ دورنا ودور سوانا؟
*****
ومع ذلك، مصرّة أنا على الكتابة، ولو كان ما أكتبه ربع صفحة، قد يقرأها عربيّ في سنة وقد لا يقرأها أحد. ومصرّة على أن تكون كتبي، على عددها المتواضع، متواضعة الحجم والشكل تصلح للحياة، بوجهي الحياة المتكاملين: بالحبّ الذي فيها والكره الذي فيها، ولا تليق بالمتاحف الباردة حيث تخاف الأشباح من نفسها.

هناك تعليقان (2):

الشاعر الفنان أحمد فتحى فؤاد يقول...

الكاتبة الرقيقة المتميزة

قرأت كل ما كتبتى و لم أجد إلا أن أقول و بكل الصدق .. أنتى كاتبة رقيقة متميزة تمتلك ناصية الكلمات و الأفكار

ربنا يوفقك

أحمد
www.elsha3erelfanan.blogspot.com

ماري القصيفي يقول...

أشكرك على الوقت والرسالة والرأي والتمنّيات. أشكرك فعلاً

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.