تصوير باتريك نوتلي
"يلثغ الطفل في حرف العين ويلفظه همزة،
فيقول: إنّي أتألّم
وهو يريد أن يقول: إنّي أتعلّم.
في أكثر الأحيان، ليس ثمّة فرق. "
من كتابي
لأنّك أحيانًا لا تكون
فيقول: إنّي أتألّم
وهو يريد أن يقول: إنّي أتعلّم.
في أكثر الأحيان، ليس ثمّة فرق. "
من كتابي
لأنّك أحيانًا لا تكون
*******
في بداية حياتي التعليميّة، "تبنّتني" زميلة اعتبرت أنّ من واجبها توجيهي إلى ممارسة وظيفتي بالشكل الأمثل وتعليمي كيف أتعامل مع التلاميذ. وممّا أذكره عن تلك الفترة أنّني كنت مرّة في رفقتها في سيّارتها، ومررنا بالقرب من أحد التلاميذ الذي أومأ أليّ محيّيًا فرددت التحية، فقالت لي الزميلة العتيقة في التعليم: أرجوك عندما تكونين معي لا تسلّمي على التلاميذ.
غير أنّ أكثر ما صعقني في وسائل التدريب التي اعتمدتها معي قولها لي ناصحة: عندما تخرجين من الصفّ عليك أن تنفضي كلّ ما يتعلّق بالتلاميذ عنك كما تنفضين غبار الطبشور العالق بثيابك.
بقيت هذه النصيحة تحفر في نفسي، وأنا أتخذ طريقًا في التربية مغايرًا لطريق تلك الزميلة التي كثيرًا ما تردّد نظريات تربويّة عالميّة لا تطبّق منها شيئًا، إلى أن كتبت يومًا أغنية ليؤدّيها تلاميذ الصفوف النهائيّة عند تركهم المدرسة ويقول مطلعها:
يا مطارحنا لا تنسينا لا تقولي بعدنا وتمحينا
نحنا مش غبرة طبشورة ولا ورقة دفتر تطوينا
نحنا المركب إنتِ المينا ورح ترجع لَيكِ مراسينا
مهما الريح تبيعد فينا
شعرت حينذاك أنّي أردّ على تلك الزميلة التي كانت تدّعي نسيان أسماء التلاميذ كي توحي لهم أنّها لا تقيم وزنًا لكيانهم ووجودهم. غير أنّ من يسمعها تحاضر في شؤون التربية ذاكرة أسماء كتب ومراجع عالميّة لن يصدّق كيف تتعامل هذه المعلّمة مع تلاميذها.
كان هذا النوع من الحوادث يعيدني مرّة بعد أخرى إلى التساؤل عن سرّ هذه الوظيفة/الرسالة التي لا يعلم خطورة ما يجري عبرها إلاّ من ارتكب "إثم" التعليم وعانى منه الأمرّين وكان صادقًا مع نفسه ومع الآخرين. وكنت دائمًا أصل إلى النتيجة نفسها: التعليم من أخطر ما يمكن أن يترك أثرًا على شخصيّة الإنسان ومن أكثر الوظائف ظلمًا للمعلّم والمتعلّم في وقت واحد.
********
مع مرور الأيّام وما حملته إليّ من خبرة، أخذت أنظر إلى التعليم نظرة مختلفة لا تشبه قطعًا نظرة تلك المعلّمة، ولكنّها بالتأكيد لا تشبه نظرتي الأولى لعمل كنت أعتبر أنّي خلقت لأقوم به لأنّي بواسطته قد أساهم في تقدّم المجتمع والناس. ولكن يبدو أنّني لم أحدث أيّ فرق يذكر في شخصيّات تلاميذ اكتشفت مع الوقت أنّهم مع احتكاكهم بالاختبار الحياتيّ الأوّل خارج إطار الكتاب والتلقين (على الرغم ممّا تدعيه المناهج الحديثة) يعودون، أكثرهم، إلى البيئات التي خرجوا منها: جهل (على الرغم من الشهادات) وغرور وطائفيّة وتخاذل وانبهار بالمظاهر الفارغة من المعنى وخضوع لذوي السلطة من أيّ نوع وعجز معيب عن التمييز بين الحقائق والأكاذيب.
التلاميذ ليسوا قطعًا "غبرة طبشورة" ولكنّهم صورة مصغّرة عن عائلات تعاني مشاكل لا تحصى، ومؤسسات تناست دورها التربويّ، ووطن لا هويّة واضحة له سوى في النصوص الرسميّة.
التلاميذ ليسوا قطعًا "غبرة طبشورة"، لكنّ النظام التعليميّ في لبنان يجعلهم مقتنعين بأنّهم كذلك، ولذلك ينفضون آثار معلّمهم عنهم عندما تنتهي حصّته أو دوامه قبل أن يقوم هو بمحوهم من ذاكرته.
في بداية حياتي التعليميّة، "تبنّتني" زميلة اعتبرت أنّ من واجبها توجيهي إلى ممارسة وظيفتي بالشكل الأمثل وتعليمي كيف أتعامل مع التلاميذ. وممّا أذكره عن تلك الفترة أنّني كنت مرّة في رفقتها في سيّارتها، ومررنا بالقرب من أحد التلاميذ الذي أومأ أليّ محيّيًا فرددت التحية، فقالت لي الزميلة العتيقة في التعليم: أرجوك عندما تكونين معي لا تسلّمي على التلاميذ.
غير أنّ أكثر ما صعقني في وسائل التدريب التي اعتمدتها معي قولها لي ناصحة: عندما تخرجين من الصفّ عليك أن تنفضي كلّ ما يتعلّق بالتلاميذ عنك كما تنفضين غبار الطبشور العالق بثيابك.
بقيت هذه النصيحة تحفر في نفسي، وأنا أتخذ طريقًا في التربية مغايرًا لطريق تلك الزميلة التي كثيرًا ما تردّد نظريات تربويّة عالميّة لا تطبّق منها شيئًا، إلى أن كتبت يومًا أغنية ليؤدّيها تلاميذ الصفوف النهائيّة عند تركهم المدرسة ويقول مطلعها:
يا مطارحنا لا تنسينا لا تقولي بعدنا وتمحينا
نحنا مش غبرة طبشورة ولا ورقة دفتر تطوينا
نحنا المركب إنتِ المينا ورح ترجع لَيكِ مراسينا
مهما الريح تبيعد فينا
شعرت حينذاك أنّي أردّ على تلك الزميلة التي كانت تدّعي نسيان أسماء التلاميذ كي توحي لهم أنّها لا تقيم وزنًا لكيانهم ووجودهم. غير أنّ من يسمعها تحاضر في شؤون التربية ذاكرة أسماء كتب ومراجع عالميّة لن يصدّق كيف تتعامل هذه المعلّمة مع تلاميذها.
كان هذا النوع من الحوادث يعيدني مرّة بعد أخرى إلى التساؤل عن سرّ هذه الوظيفة/الرسالة التي لا يعلم خطورة ما يجري عبرها إلاّ من ارتكب "إثم" التعليم وعانى منه الأمرّين وكان صادقًا مع نفسه ومع الآخرين. وكنت دائمًا أصل إلى النتيجة نفسها: التعليم من أخطر ما يمكن أن يترك أثرًا على شخصيّة الإنسان ومن أكثر الوظائف ظلمًا للمعلّم والمتعلّم في وقت واحد.
********
مع مرور الأيّام وما حملته إليّ من خبرة، أخذت أنظر إلى التعليم نظرة مختلفة لا تشبه قطعًا نظرة تلك المعلّمة، ولكنّها بالتأكيد لا تشبه نظرتي الأولى لعمل كنت أعتبر أنّي خلقت لأقوم به لأنّي بواسطته قد أساهم في تقدّم المجتمع والناس. ولكن يبدو أنّني لم أحدث أيّ فرق يذكر في شخصيّات تلاميذ اكتشفت مع الوقت أنّهم مع احتكاكهم بالاختبار الحياتيّ الأوّل خارج إطار الكتاب والتلقين (على الرغم ممّا تدعيه المناهج الحديثة) يعودون، أكثرهم، إلى البيئات التي خرجوا منها: جهل (على الرغم من الشهادات) وغرور وطائفيّة وتخاذل وانبهار بالمظاهر الفارغة من المعنى وخضوع لذوي السلطة من أيّ نوع وعجز معيب عن التمييز بين الحقائق والأكاذيب.
التلاميذ ليسوا قطعًا "غبرة طبشورة" ولكنّهم صورة مصغّرة عن عائلات تعاني مشاكل لا تحصى، ومؤسسات تناست دورها التربويّ، ووطن لا هويّة واضحة له سوى في النصوص الرسميّة.
التلاميذ ليسوا قطعًا "غبرة طبشورة"، لكنّ النظام التعليميّ في لبنان يجعلهم مقتنعين بأنّهم كذلك، ولذلك ينفضون آثار معلّمهم عنهم عندما تنتهي حصّته أو دوامه قبل أن يقوم هو بمحوهم من ذاكرته.