في ازدحام السير الخانق، انطلق سائق التاكسي في الشكوى: دوران طوال النهار على الطرقات، غلاء بنزين في وقت ينخفض السعر في العالم، زبائن مزاجيّون (أكثرهم نساء)، غلاء وأقساط مدارس، لا قانون مفروضًا لتنظيم السير، زحمة سيّارات. كان من الواضح أنّ الرجل على شفير الانهيار.
من عادتي أن أطلب من مكتب التاكسي حين أتّصل كي يرسلوا سيّارة أن يكون سائقها من النوع الصامت كي لا يكلّمني طوال الطريق، وألاّ يسمعني أغنيات أو نشرات أخبار. الشرط الأوّل سببه أنّني أعترف برغبتي في الإصغاء إلى قصص الناس، وبالتالي فإن بدأ السائق في الكلام فسأنجرف حتمًا في الحديث مع ما في ذلك من استفهام واستيضاح وإسداء نصائح وتقديم مشورة. أمّا سبب الشرط الثاني فهو أنّني لا أحتمل أن يفرض عليّ الرجل رأيه السياسيّ حين يختار المحطة التي تذيع نشرات الأخبار، ولا أحتمل ذوقه الفنيّ إن قرّر أن يسمعني أغاني حديثة من اختياره. ولكن من الواضح أنّ المكتب لم يحذّر السائق أو لم يجد سواه متوفّرًا في ذلك الوقت، فانطلق منذ لحظة انطلاق السيّارة إلى الاسترسال في شكاوى هي أقرب إلى المناجاة مستفيدًا من صمتي الذي كنت أتمنّى لو بقيت غارقة فيه.
غير أنّ إعلان الرجل عن أنه يفكّر أحيانًا في أن يضع المسدس على صدغه ويطلق النار ليرتاح من هذه الدنيا، دفعني إلى التنبّه إلى أنّ ثمّة ما يجب أن يقال وأن لا بدّ من الاستفهام والاستيضاح وتقديم النصيحة.
باح الرجل بقصّته التي تشبه قصصًا لا تحصى، إلاّ أنّها بالنسبة إليه حالة نادرة وخطيرة لم تعد تحتمل. هو في الأساس محاسب، عمل في كبريات الشركات، سافر إلى أكثر من دولة خليجيّة حيث وصل إلى مراكز مرموقة، خسر ماله في أحد المصارف، استغنت عنه الشركة حين بدأت بتخفيض عدد موظّفيها القدامى لارتفاع رواتبهم. فلم يكن أمامه إلاّ "هذا العمل". قال ذلك كأنه يعتذر عن خيار فرض عليه فرضًا أو كأنّ "هذا العمل" مهين ومعيب ويخجل الإنسان السويّ من ممارسته.
بدا من اللغة التي استخدمها الرجل في وصف عمله السابق أنّه صادق، فهو يجيد اللغات الأجنبيّة، ويذكر أسماء الشركات في وضوح ومعرفة أكيدة، وكذلك أنواع المهام التي أوكلت إليه.
بيني وبين نفسي أردت أن أعتبر الحديث عن انتحاره مجرّد فشّة خلق، وفكّرت للحظة في إطلاق جملة ساخرة فأطلب منه مثلاً أن يوصلني آمنة ثمّ ينتحر، ثمّ تراجعت وأنا أتذكّر تصرّفات مدروسة عمليًّا ونفسيًّا رأيتها في الأفلام الأميركيّة حين كان متخصّصون يقولون ما يجب أن يقال عند محاصرة راغب في الانتحار ومحاولة إقناعه بالعدول عن قراره. وقلت في نفسي إنّ الأمر ليس لعبة والمغامرة بحياة الناس لا تحتاج إلى مزيد من المتطوّعين بعدما أظهر حكّامنا براعة في ذلك لا تبارى.
حين وصلت إلى وجهتي، كنت قلت كلامًا كثيرًا وجررت الرجل، وهو راغب في ذلك، إلى تفريغ شحنة سلبيّة من الغضب والعنف وبدا كأنّه استعاد هدوءه. حين ترجّلت من السيّارة، فكّرت للحظة في أن أطلق نصيحتي الأخيرة وأذكّره بالمثل القائل: شوف مصيبة غيرك بتهون مصيبتك. إلاّ أنّني خشيت أن أقنعه عبر هذا الكلام، بأن ليس في الحياة سوى المصائب، فأضاعف من رغبته في الموت تخلّصًا من آلامه وآلام سواه.
من عادتي أن أطلب من مكتب التاكسي حين أتّصل كي يرسلوا سيّارة أن يكون سائقها من النوع الصامت كي لا يكلّمني طوال الطريق، وألاّ يسمعني أغنيات أو نشرات أخبار. الشرط الأوّل سببه أنّني أعترف برغبتي في الإصغاء إلى قصص الناس، وبالتالي فإن بدأ السائق في الكلام فسأنجرف حتمًا في الحديث مع ما في ذلك من استفهام واستيضاح وإسداء نصائح وتقديم مشورة. أمّا سبب الشرط الثاني فهو أنّني لا أحتمل أن يفرض عليّ الرجل رأيه السياسيّ حين يختار المحطة التي تذيع نشرات الأخبار، ولا أحتمل ذوقه الفنيّ إن قرّر أن يسمعني أغاني حديثة من اختياره. ولكن من الواضح أنّ المكتب لم يحذّر السائق أو لم يجد سواه متوفّرًا في ذلك الوقت، فانطلق منذ لحظة انطلاق السيّارة إلى الاسترسال في شكاوى هي أقرب إلى المناجاة مستفيدًا من صمتي الذي كنت أتمنّى لو بقيت غارقة فيه.
غير أنّ إعلان الرجل عن أنه يفكّر أحيانًا في أن يضع المسدس على صدغه ويطلق النار ليرتاح من هذه الدنيا، دفعني إلى التنبّه إلى أنّ ثمّة ما يجب أن يقال وأن لا بدّ من الاستفهام والاستيضاح وتقديم النصيحة.
باح الرجل بقصّته التي تشبه قصصًا لا تحصى، إلاّ أنّها بالنسبة إليه حالة نادرة وخطيرة لم تعد تحتمل. هو في الأساس محاسب، عمل في كبريات الشركات، سافر إلى أكثر من دولة خليجيّة حيث وصل إلى مراكز مرموقة، خسر ماله في أحد المصارف، استغنت عنه الشركة حين بدأت بتخفيض عدد موظّفيها القدامى لارتفاع رواتبهم. فلم يكن أمامه إلاّ "هذا العمل". قال ذلك كأنه يعتذر عن خيار فرض عليه فرضًا أو كأنّ "هذا العمل" مهين ومعيب ويخجل الإنسان السويّ من ممارسته.
بدا من اللغة التي استخدمها الرجل في وصف عمله السابق أنّه صادق، فهو يجيد اللغات الأجنبيّة، ويذكر أسماء الشركات في وضوح ومعرفة أكيدة، وكذلك أنواع المهام التي أوكلت إليه.
بيني وبين نفسي أردت أن أعتبر الحديث عن انتحاره مجرّد فشّة خلق، وفكّرت للحظة في إطلاق جملة ساخرة فأطلب منه مثلاً أن يوصلني آمنة ثمّ ينتحر، ثمّ تراجعت وأنا أتذكّر تصرّفات مدروسة عمليًّا ونفسيًّا رأيتها في الأفلام الأميركيّة حين كان متخصّصون يقولون ما يجب أن يقال عند محاصرة راغب في الانتحار ومحاولة إقناعه بالعدول عن قراره. وقلت في نفسي إنّ الأمر ليس لعبة والمغامرة بحياة الناس لا تحتاج إلى مزيد من المتطوّعين بعدما أظهر حكّامنا براعة في ذلك لا تبارى.
حين وصلت إلى وجهتي، كنت قلت كلامًا كثيرًا وجررت الرجل، وهو راغب في ذلك، إلى تفريغ شحنة سلبيّة من الغضب والعنف وبدا كأنّه استعاد هدوءه. حين ترجّلت من السيّارة، فكّرت للحظة في أن أطلق نصيحتي الأخيرة وأذكّره بالمثل القائل: شوف مصيبة غيرك بتهون مصيبتك. إلاّ أنّني خشيت أن أقنعه عبر هذا الكلام، بأن ليس في الحياة سوى المصائب، فأضاعف من رغبته في الموت تخلّصًا من آلامه وآلام سواه.