بسّام حجّار |
لم يعد الشعراء العرب يموتون من الحبّ، وتوقّفوا عن الموت
في ساحات القتال، وما عاد بيت من الشعر يقتلهم ولا كتاب جريء يوصلهم إلى النهاية
المحتومة، صاروا يموتون من القرف من الحياة، لا بل صاروا يستسلمون لموت بطيء
يتسلّل إلى خلاياهم ويأكلها خلية تلو خلية قبل أن يوصلهم جلدًا وعظمًا إلى باب
القبر.
منذ يومين، حين انضمّ الشاعر اللبنانيّ المثقّف بسّام حجّار إلى قافلة الشعراء الموتى، قلت في نفسي لن أكتب عنه، ولن أنضمّ إلى سلسلة الندّابين الذين يجدون في موت أحدهم مادة لكتابة مقالة تنتظرها الصحيفة. غير أنّ غضبًا ما جعلني أتراجع عن قراري، وأفهمني أنّ سواي من الذين يكتبون إنّما فعلوا ذلك وفيهم ما فيّ من النقمة على هذا الموت السخيف الذي لا يستحقّه الشعراء، لا لأنّهم أفضل من غيرهم أو أعلى مرتبة أو أكثر قيمة في سلّم الإنسانيّة، بل لأنّهم يموتون كلّ يوم مليون مرّة كما سبق وقلت عن منصور الرحباني حين مات موته الأخير.
وبطريقة أو أخرى، كلّ الناس شعراء، وخصوصًا الأطفال.
ضاقت رفوف مكتبتي بقصاصات الصحف التي تودّع الشعراء، وها أنا في مرحلة الذاكرة الإلكترونيّة أترك فسحات لما يقال في رثاء من يرحل منهم في عصر ما بعد الورقة والقلم. وبين غبار المكتبة وبياض الشاشة صارت أعداد الذين هناك تفوق أعداد الذين هنا، ومالت كفّة الشعر إلى حيث لا صراع طويلاً مع المرض ولا خوف على الحريّة ولا موت يحصد الأطفال. في كلّ مرّة يصل إليّ خبر موت أحدهم أقول في نفسي: مات قصدًا. لم يعد يريد الصراع من أجل البقاء، ولا احتمال بشاعات هذا العالم، ولا السعي لتحصيل الرزق، ولا مقاومة السلطة، ولا تلقّي العلاج، ولا متابعة الأخبار، ولا محاولة إصلاح هذا الكون، ولا تحمّل السخفاء وثقيلي الظلّ، ولا الاستماع إلى خطابات السياسيّين وما يليها من إطلاق رصاص ابتهاجًا بكلّ هذا الموت.
أنا لم أعرف بسّام حجّار معرفة شخصيّة كما لم أعرف سواه من الشعراء، أنا أعرف ما كتبوه وما ترجموه وما أضافوه إليّ. لقد كنت دائمة الحرص على الابتعاد عنهم خشية أن تخدش نزعةٌ إنسانيّة فيهم، طبيعيّةٌ هي، الشعرَ (أو ما يصبّ فيه) الذي تعاملت معه كأنّه من عالم آخر: نظيف، وسامٍ، وهشّ، ورقيق، وجميل، وأنيق، وذكيّ، ومحبّ، وبريء. وكانت بعض التجارب القليلة كافية لتطلق صفّارة الإنذار لتنبهّني إلى أنّ القصيدة قد لا تشبه شاعرها أو أنّ الشاعر ليس نسخة طبق الأصل عن قصيدته. غير أنّي الآن أتمنّى لو التقيت بسّام حجّار، لعلّ الإنسان الذي فيه، بميوله ورغباته وأخطائه وعيوبه، خفّف من وطأة موت الشاعر المثقّف. ربّما كان تصرّف ما من تصرّفاته برّر لي موته، ربّما كان متكبّرًا، ربّما كان ثقيل الظلّ، ربّما كان أيّ أحد آخر يجعلني أضعه في خانة الذين لا يعنيني أمرهم ويموتون كلّ يوم، في كلّ مكان في العالم، وأقول في نفسي: هذه سنّة الحياة. الآن لن أعرف كيف كان بسّام حجّار الإنسان إلاّ من خلال ما كتبه عارفوه عنه، وسيبقى رحيل الشاعر الشابّ موجعًا ولن يخفّف منه أنّ شعره باق، وأنّه أغنى المكتبة العربيّة بالترجمات ذات المستوى العالي الرفيع. غير أنّني في هذه اللحظة لا يسعني سوى أن أفكّر في أهله وأصدقائه وزملائه، وأتساءل بماذا يداوون رحيله!
منذ يومين، حين انضمّ الشاعر اللبنانيّ المثقّف بسّام حجّار إلى قافلة الشعراء الموتى، قلت في نفسي لن أكتب عنه، ولن أنضمّ إلى سلسلة الندّابين الذين يجدون في موت أحدهم مادة لكتابة مقالة تنتظرها الصحيفة. غير أنّ غضبًا ما جعلني أتراجع عن قراري، وأفهمني أنّ سواي من الذين يكتبون إنّما فعلوا ذلك وفيهم ما فيّ من النقمة على هذا الموت السخيف الذي لا يستحقّه الشعراء، لا لأنّهم أفضل من غيرهم أو أعلى مرتبة أو أكثر قيمة في سلّم الإنسانيّة، بل لأنّهم يموتون كلّ يوم مليون مرّة كما سبق وقلت عن منصور الرحباني حين مات موته الأخير.
وبطريقة أو أخرى، كلّ الناس شعراء، وخصوصًا الأطفال.
ضاقت رفوف مكتبتي بقصاصات الصحف التي تودّع الشعراء، وها أنا في مرحلة الذاكرة الإلكترونيّة أترك فسحات لما يقال في رثاء من يرحل منهم في عصر ما بعد الورقة والقلم. وبين غبار المكتبة وبياض الشاشة صارت أعداد الذين هناك تفوق أعداد الذين هنا، ومالت كفّة الشعر إلى حيث لا صراع طويلاً مع المرض ولا خوف على الحريّة ولا موت يحصد الأطفال. في كلّ مرّة يصل إليّ خبر موت أحدهم أقول في نفسي: مات قصدًا. لم يعد يريد الصراع من أجل البقاء، ولا احتمال بشاعات هذا العالم، ولا السعي لتحصيل الرزق، ولا مقاومة السلطة، ولا تلقّي العلاج، ولا متابعة الأخبار، ولا محاولة إصلاح هذا الكون، ولا تحمّل السخفاء وثقيلي الظلّ، ولا الاستماع إلى خطابات السياسيّين وما يليها من إطلاق رصاص ابتهاجًا بكلّ هذا الموت.
أنا لم أعرف بسّام حجّار معرفة شخصيّة كما لم أعرف سواه من الشعراء، أنا أعرف ما كتبوه وما ترجموه وما أضافوه إليّ. لقد كنت دائمة الحرص على الابتعاد عنهم خشية أن تخدش نزعةٌ إنسانيّة فيهم، طبيعيّةٌ هي، الشعرَ (أو ما يصبّ فيه) الذي تعاملت معه كأنّه من عالم آخر: نظيف، وسامٍ، وهشّ، ورقيق، وجميل، وأنيق، وذكيّ، ومحبّ، وبريء. وكانت بعض التجارب القليلة كافية لتطلق صفّارة الإنذار لتنبهّني إلى أنّ القصيدة قد لا تشبه شاعرها أو أنّ الشاعر ليس نسخة طبق الأصل عن قصيدته. غير أنّي الآن أتمنّى لو التقيت بسّام حجّار، لعلّ الإنسان الذي فيه، بميوله ورغباته وأخطائه وعيوبه، خفّف من وطأة موت الشاعر المثقّف. ربّما كان تصرّف ما من تصرّفاته برّر لي موته، ربّما كان متكبّرًا، ربّما كان ثقيل الظلّ، ربّما كان أيّ أحد آخر يجعلني أضعه في خانة الذين لا يعنيني أمرهم ويموتون كلّ يوم، في كلّ مكان في العالم، وأقول في نفسي: هذه سنّة الحياة. الآن لن أعرف كيف كان بسّام حجّار الإنسان إلاّ من خلال ما كتبه عارفوه عنه، وسيبقى رحيل الشاعر الشابّ موجعًا ولن يخفّف منه أنّ شعره باق، وأنّه أغنى المكتبة العربيّة بالترجمات ذات المستوى العالي الرفيع. غير أنّني في هذه اللحظة لا يسعني سوى أن أفكّر في أهله وأصدقائه وزملائه، وأتساءل بماذا يداوون رحيله!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق