تخضع الكتابة في الصحف لما هو أصعب من مزاج الكاتب نفسه، فثمّة أمزجة كثيرة تتحكّم بعمليّة النشر تصل أحيانًا إلى درجة من العبثيّة والفوضى والضبابيّة تضع النصّ في مهبّ عواصف لا ترصدها نشرات الطقس أو توقّعات الفلك.
لا تزال بعض حكايات عملي "الصحافيّ" في أكثر من مجلّة وصحيفة عالقة في ذاكرتي، على الرغم من مرور نحو عشرين سنة على نشر النصّ الأوّل، وما سيروى هنا هو بعض مشاهدات تعبّر عن القلق الذي يولد فيه النصّ ويكتب وينشر أو يرفض! سياسة الصحيفة حاجز أوّل كثيرًا ما توقّفت عنده لأسأل نفسي إن كان ما كتبته يلائم الاتجاه السياسيّ (وبالتالي الدينيّ والاجتماعيّ والفكريّ) الذي تسلكه هذه الصحيفة في هذه المرحلة المعيّنة، إذ قد تتغيّر السياسة في مرحلة لاحقة، أو تتناقض مع مرحلة سابقة. ولذلك كان عليّ أن أرصد يوميًّا ميول أصحاب القرار قبل أن أقرّر إرسال النصّ. الحاجز الثاني هو الشخص المسؤول عن القسم الذي سينشر فيه النصّ، فقد يتجاهله أو يضيّعه أو يسرق فكرته أو يؤجّله إلى ما بعد مرور مناسبته أو يقرّر أنّه دون المستوى المطلوب أو لا ينسجم مع النصوص السابقة، وكلّ ذلك في إطار من الرفض المهذّب الذي يستعمل أساليب التهرّب أو المماطلة أو التسويف أو التأجيل، وعند هذا الحاجز قال لي أحد "القياديّين" في إحدى الصحف اللبنانيّة وهو يعتذر عن عدم نشر النصّ: اتّصلي بي قبل أن تكتبي وقولي لي ما هي فكرة النصّ وأنا أقول لك إن كانت تصلح للكتابة عنها أو لا، لئلاّ تضيّعي الوقت من دون جدوى. طبعًا لم يعجبه جوابي حين قلت له: وماذا إذا سُرقت الفكرة؟ لم تغب عنه صيغة المجهول التي طرحت فيها السؤال وانتهى اللقاء، غير أنّ هذا الشاعر القياديّ نشر لي نصًّا باسم مستعار أرسلته كاختبار بعد ذلك اللقاء اليتيم وأعطاه الفسحة التي لم أكن أحلم فيها، وكتب فكرة نصّي المرفوض بتوقيعه. الحاجز الثالث هو الأنانيّة التي تصيب المسؤول عن مصير النصّ إذ يخشى أن تبهت في وجهه كتابات أخرى له أو لسواه، فليس من المسلّمات الطبيعيّة اليوميّة أن نجد في عالم الإبداع من يحتفي بالنصّ إذا لم يكن هو كاتبه أو يفسح له المجال لإثبات نفسه وقيمته. وإذا كانت النزعة النرجسيّة مقبولة عند الكاتب فهي مرفوضة عند المسؤول عن الصفحات الثقافيّة أو سواها لأنّ دوره الرياديّ يقضي بالإضاءة على المواهب والترحيب بالإبداع والاحتفال بالموهبة. الحاجز الرابع هو قيمة النصّ الماديّة أي كيف يتمّ تقييم النصّ في سلّم الرواتب والمكافآت، إذ هناك صحف تقول لك: عليك أن تدفع كي ننشر ما تكتبه، فنحن نقدّم لك مساحة للتعبير وفرصة للشهرة. وعند هذا القول عليك أنت أن تقرّر ما إذا كنت من أنصار الفنّ للفنّ أو الفنّ من أجل الخبز.
ومع ذلك بقيت أكتب وأرسل إلى الصحف وبقيت المفاجآت غير المفهومة موجودة، فأحيانًا كنت أتوقّع ألاّ ينشر لي نصّ ما لمعرفتي المسبقة بطبيعته الفجّة القاسية اللئيمة، ثمّ أجده أمامي على صفحات الجريدة بكامل فجاجته وقسوته ولؤمه، ومرّات أتوقّع أن يمرّ النصّ مرور الكرام ولا يلفت انتباه أحد فإذا بي أتلقّى رسائل الإعجاب، وقد يحدث العكس فأرسل نصًا أفتخر فيه وأنتظر أن يكون حديث النقّاد والناس غير انّه ينطفئ في غفلة من الجميع. لست وحدي إذَا من يتحكّم بمصير النصّ، فالكتابة بمزاجي الخاصّ شيء ونشر النصّ بحسب نظرة المسؤولين عن الصحيفة شيء آخر، وتلقّيه بحسب مزاج الناس شيء ثالث مختلف تمامًا. ومع ذلك، عاهدت نفسي طيلة عملي في الصحافة أن أكتب بمزاجي وألاّ أسأل عن مصير النصّ، إذ كانت عندي القناعة الداخليّة أنّ النصّ إن كان فيه شيء من القيمة الأدبيّة فسيفرض نفسه عاجلاً أم آجلاً، وأنا طبعًا أتمنّى أن ينشر على عجل وقبل أن يأتي الأجل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق