مساكين تلاميذ المدارس وطلاّب الجامعات الذين يملأون رؤوسهم معلومات اقتصاديّة صارت بين لحظة وأخرى من التراث والتاريخ وعبر الماضي. ومساكين لأنّهم مجبرون، وعلى الرغم من التغيّرات العالميّة في الأنظمة الماليّة، على التصرّف كأنّ شيئًا لم يكن. فما كتب قد كتب، وما من مجال الآن لتغيير المناهج، وبالتالي سيتقدّم هؤلاء المساكين لامتحانات صوريّة يعرف المعلّمون والتلاميذ على حدّ سواء أنّ ما يكتب في كراريسها وأوراقها لا قيمة علميّة له ولا يعبّر عن واقع الحال.
وهكذا نضع يدنا على قضيّة خطيرة في التعليم والتربية إذ نكتشف عجز المناهج في بلادنا عن مواكبة التغيّرات والتطوّرات والاختراعات والأبحاث، فتبدو الكتب كلّها كتب تاريخ تحكي عن أمور انقضت ولم يعد معمولاً بها في العالم، ولكن قوانين بلداننا التربويّة لم تستطع أن تواكبها. فقبل أن يدخل درس جديد أو يحذف آخر قديم هناك مراحل وخطوات لا بدّ منها: أوّلاً يجب أن يعلم القيّمون على التربية في بلداننا بما استجدّ على الصعيد العلميّ، وليس هذا بالأمر البسيط كما قد يظنّ بعضكم، فدون ذلك ملفّات عالقة منذ سنين وتحتاج رعاية خاصّة لا تسمح بمتابعة المستجدّات ساعة بعد ساعة. ثمّ هناك مشاورات واجتماعات وأفعال وردود أفعال وتغيّرات حكوميّة وموازنة تنتظر التصديق عليها، واستشارات يتدخّل فيها رجال الدين ورجال العلم ونساء رجال الدين ونساء رجال العلم، إلى أن تعطى الأوامر أخيرًا بتعديل هذا المنهج في تلك المادة.
هنا تبدأ مرحلة تأليف اللجان بعد تقرير إلى أيّ خطّ سياسيّ أو فكريّ أو دينيّ ينتمي أعضاؤها، ثمّ تصل مرحلة اعتكاف اللجان عن عملها بسبب تأخّر وصول الرواتب، ثمّ تعود اللجان لتجتمع وتدرس وتقرّر وتنال الموافقة على مقرّراتها. غير أنّ سجالاً يدور بين القيّمين على أمور التربية حول ما إذا كان للجان دور استشاريّ أو تنفيذيّ. وبعد أن يحسم الجدل، تصدر الأوامر السامية بتعديل المناهج.
في هذا الوقت يتابع التلاميذ دروسهم كالمعتاد. يدخلون إلى الصفّ عندما يقرع الجرس، يصل المعلّم، يشرح الدرس وهو غير مقتنع بكلمة واحدة ممّا يقوله، في حين ترنو عيناه إلى الباب لعلّ الناظر يصل ليخبره بأنّ الدولة قررت أخيرًا حذف هذا الدرس من المنهج. وحين يخيب أمله ساعة بعد ساعة، وحصّة بعد حصة، يكتشف أنّ السنة الدراسيّة مرّت، وأنّ التلاميذ مجبرون على التقدّم لامتحانات يعرفون جيّدًا أنّ ما سيكتب فيها لا يشبه الحقائق في شيء. ومع ذلك، على المصحّحين واللجان الفاحصة أن تحاسبهم بدقّة إن أعلنوا الحقائق التي تعلّموها عبر التلفزيون أو الإنترنت، أو التي سمعوها من آبائهم مدراء الشركات والمصارف. فليس كلّ ما يعلم يقال، وخصوصًا إذا كان ما يُعلم لا يتلاءم مع الدرس الذي حفظه المعلّم غيبًا، وعلى التلاميذ أن يردّدوه خلفه كالببغاوات، وأن يثنوا على نظريات كانت مسيطرة على النظام الاقتصاديّ المنهار الذي جرف مع انهياره أمان عائلات لن يُعرف عددها في وقت قريب.
ونعجب بعد ذلك، لماذا يكره تلاميذنا المدارس ويفضّلون عليها شبكة الإنترنت وبرامج التلفزيون وأفلام السينما. فإيقاع التربية الممل لا يتلاءم مع السرعة التي تجري فيها الأمور خارج الصفّ. و لا يعني ذلك في طبيعة الحال اللحاق الأعمى بقطار التطوّر السريع من دون تبصّر أو تمحيص، ولكن يجب أن تكون خلايا وزارات التربية كخلايا النحل: نشاط ومتابعة وتجديد وسعي واستباق المواسم قبل أن يموت الزهر ونخسر الرحيق فلا نذوق العسل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق