Julie Christe |
قلائل هم الناس الذين أعرفهم وكانوا تلاميذ في مدرسة داخليّة: خالي مثلاً كان تلميذًا في دير للرهبان، وكان يخبرني عن الحياة في مدرسة داخليّة وما زلت أذكر قوله أنّ اليوم الذي كان يسبق زيارة الأهل أولادهم في المدرسة هو أكثر الأيّام التصاقًا بذاكرته، لأنّ الطعام الشهيّ كان يوفّر لهذا اليوم فيوضع على المائدة مختلف أصناف الطعام والحلويات، وهكذا عندما كان الأهل يسألون أولادهم عن حالهم كان هؤلاء يتحدّثون عن وليمة الأمس وينسون ما كان يقدّم لهم خلال الشهر كلّه. مع وسائل الاتصال الحديثة صار في إمكان الأهل التواصل مع أولادهم ومعرفة تفاصيل حياتهم اليوميّة، ويراقبون ما يجري ولو من بعيد، ولم يعد ثمّة مشكلة في معرفة طرائق التربية وأساليب المعاملة، ولكن من قال إنّ التلاميذ لن يختاروا من الحقائق إلاّ ما يلائمهم ليعلموا أهلهم به، ولذلك تبقى مشكلة الاهتمام بالأولاد المبعدين عالقة. ولكن السؤال الذي لا يزال يحيّرني هو عن الأسباب التي تجعل والدين يفكّران في أن يرسلا أولادهما إلى مدرسة داخليّة، أكانت في بلادهما أم خارجها.
هناك نوعان من المدارس الداخليّة: تلك الفقيرة التي تشرف عليها مؤسّسات إنسانيّة ودينيّة وتستقبل أولادًا من ذوي الحاجات الخاصّة، أو الأيتام، أو الفقراء؛ وتلك التي تستقبل أبناء الطبقة الميسورة لتؤمّن لهم، بحسب ما يظنّه الأهالي، العلم والتربية والانضباط والانخراط في المجتمع والاتّكال على النفس (وعن هذا النوع يدور حديثي). وفي هذين النوعين، تبقى الغربة سيّدة الموقف، وسوف يمضي الأولاد ما تبقّى حياتهم وهم يعالجون أمراضهم النفسيّة التي تسبّب بها إبعادهم عن المنزل ودفء العائلة وإجبارهم على الانصياع لأوامر مسؤولين قد لا يكونون دائمًا على مستوى المسؤوليّة. كنت دائمًا أجد صعوبة في تقبّل المجتمعات المغلقة، وكنت أعتبر أنّ عمليّة تجميع أشخاص يحملون صفة معيّنة، مهما كان نوعها، في مكان واحد هو إلغاء لخصوصيّة كلّ فرد منهم وتغييب لهويّته ليصير رقمًا في سجّلات هذا المكان. وكنت أتمنّى دائمًا لو أنّ الحكومات تدفع المال للناس كي يهتّموا بأولادهم وكبارهم ومرضاهم ومعاقيهم بدل دفعه لبناء مؤسّسات تؤمّن لمن فيها الرعاية ولكنّها تعجز عن أن تعيد إليهم ذكريات غرفهم وأسرّتهم وحياتهم. وإذا كنت أفهم سبب الاضطرار إلى اللحوء إلى المستشفى أو المعهد الطبيّ أو مركز المعاقين أو السجن وسواها من أماكن يتجمّع فيها تحت عنوان واحد أشخاص معيّنون، فلا شكّ في أنّ إرسال الأولاد إلى مدرسة داخليّة أمر يفوق قدرتي على الفهم خصوصًا متى كانت الأسباب تختصر في كلمات وعبارات من مثل: السفر، العمل، الطلاق، صعوبة التعامل مع الولد، المستوى الاجتماعيّ يفرض ذلك، المستوى التربويّ أفضل، بالي مطمئنّ فهو في أيد أمينة (كأنّ البقاء مع العائلة لا يعني الأمان). وإذا كنت لم أنجح في إقناع نفسي بكلّ هذه الأسباب التي يقدّمها الأهالي الكرام لإقناع أنفسهم وأولادهم بصواب عملهم، فلن أعجز عن رؤية النتائج التي تظهر من اليوم الأوّل لدخول هؤلاء المبعدين عن أهلهم إلى غرفهم الباردة في المكان الغريب. ونحن نتحدّث هنا، لمن فاته الأمر، عن مراهقين لم يصلب عودهم ولم تنضج عاطفتهم، خصوصًا أنّ ثمّة عائلات تبقي أولادًا في البيت وترسل أخوتهم إلى المدرسة ما يحدث شرخًا نفسيًّا خطيرًا، قد لا يلتئم مدى الحياة.
وكي لا يأخذ الكلام اتجاهًا سلبيًّا وحسب، وفي محاولة لتقليل حجم الضرر الناتج عن هذه الإقامة الجبريّة في مكان لا يُعقل أن يرتاح فيه وإليه أيّ مراهق، يجب على الأهالي اختيار المدرسة الداخليّة بعناية شديدة، والبقاء على اتّصال بالمسؤولين فيها، والمراقبة والمحاسبة والاعتراض متى لزم الأمر. وعلى القيّمين على تلك المدارس الجمع بين السلطة الحازمة (لا التسلّط الأعمى) وبين الرعاية والاهتمام وتنويع النشاطات ومراقبة صحّة التلاميذ ولحظ أيّ تغيّر يطرأ على أمزجتهم أو مستواهم الدراسيّ أو سلوكهم ولذلك يجب أن يتميّز المهتمّون بهؤلاء التلاميذ بمستوى عال من النضج والمعرفة والصبر وروح الشباب وحسّ الابتكار. ولعلّ النقطة الأهمّ التي يجب الانطلاق منها هي إرسال الأولاد إلى مدرسة داخليّة بعد أن يتخطّوا مرحلة الطفولة، أي حصر ذلك بالمرحلة الثانويّة التي تهيّئهم للمرحلة الجامعيّة والسفر والاستقلال. وإلاّ فما الداعي لكي يتعب الوالدان في تحصيل المال من أجل العائلة، والعائلة مفكّكة وموزّعة لا يلتقي أفرادها إلاّ كي يتشاجروا ويتبادلوا نظرات الكره والحقد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق