كلمة الناشر انطوان سعد في الندوة عن رواية "قاديشا" التي نقلتها ا|لأديبة ماري القصّيفي عن الفرنسيّة، يوم الخميس 29 آذار 2012 في جامعة الكسليك
أصحاب المقامات،
قدس الأباتي، صاحبَي المعالي، حضرة المؤلّف، أيّها الحضور الكريم،
في خضم أعمالنا وتحدّياتنا وشؤوننا وشجوننا والمواجهات المصيريّة التي نأخذها على عاتقنا والتي غالبًا ما تتخطّى قدراتنا وطاقتنا، يذهل المراقب بهذه الدونكيشوتيّة وهذا التهوّر لدى حفنة لم يكن عددها وإمكاناتها الماديّة يومًا حائلًا دون أحلامها الكبيرة، ولا ما تنتجه متناسبًا مع هذا العدد وهذه الإمكانات. ولا ضرورة في التبسّط في الشرح، ولا سيما بعدما أبدع الأستاذ نجّار في التنقّل بين زهور تاريخنا منتقيًا أجملها وإن لم تكن دائمًا أسعدها، ليجمعها باقة نضرة في هذا المؤلَّف القيم الذي نفخر كدار بوضعه اليوم بين أيديكم.
إنّها رواية رائعة تعيد بنسجها الخياليّ رسم معالم دفينة في وجدان شعب، تسبّب انتقاله وسعيه للحداثة ومتطلّبات الحياة العصريّة بفقدانه صلة الوصل مع إرثه الذي أعطاه مميّزاته ومكّنه من بلوغ مكانته البارزة في قلب المنطقة العربيّة، ومختلف أصقاع العالم. في قاديشا، يوجّه اسكندر نجّار، المحلّق في فضاء الفرنكوفونيّة وقضايا الإنسان المتعدّدة التي كانت اقتادته من جبال القوقاز إلى ليبيا إلى الكراييب وأوروبا، أجنحته صوب الوادي المقدّس، فيحطّ على محطات دروب تاريخه قبل أن يعاود التحليق مجتذبًا القارئ نحو أبعاد قديمة في مراميها ومعانيها وجديدة في تطلعاتها وتحدياتها.
النسخة العربيّة من رواية قاديشا نقلتها إلى اللغة العربيّة الأديبة ماري القصيفي التي تجمعنا بها كدار وأشخاص ناشطين في الدار أكثر من تعاون وهو الإيمان بقاديشا وبما مثّلته وتمثّله ويفترض أن تمثّله وتحمله من إجابات على تساؤلاتنا الحاضرة. ماري القصيفي، لك شكرنا أيضًا وتقديرنا على عملك المتقن، ونحن ننتظر ونعد اليوم الحضور الكريم بروايتك المقبلة عن مأساة حرب الجبل الذي نأمل من كلّ القلب أن تبقى ذكرى وما تنعاد أبدًا.
لقد أصررنا على أن نطلق رواية قاديشا في أحد أبرز معاقل قاديشا، وهي جامعة الروح القدس التي تشكّل أحد أبرز جسور وناقلي إرث قاديشا في العقود الخمسة المنصرمة، إلى باقي أرجاء لبنان وإلى العالم بأسره والتي تستمر بأمانة بحمل هذه الرسالة مضيفة إليها رونقًا خاصًا وعبيرًا خاصًا ونغمات ساحرة تضفي على الماضي العريق مزيدًا من العراقة والأصالة والإبداع. وهنا أجدد شكري لأسرة الجامعة بشخص رئيسها الأب هادي محفوظ وأمين سرها الأب الصديق ميشال أبو طقة راجيًا لهم المزيد من الصحة والنجاح في المهمة الملقاة على عاتقهما.
بعد هذه النسخة العربية التي نأمل أن تنال إعجابكم لدينا طموحات عديدة بشأن رواية قاديشا تبدأ بالباند دسينه الذي كان الأباتي نعمان وفي هذا الصرح بالذات رائده على مستوى تاريخ الموارنة قبل أكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا ولا نعلم أين تنتهي.
****
كلمة أنطوان سعد مقدّمًا الوزير ميشال إدّه:
نبدأ مع معالي الأستاذ ميشال إده رئيس المؤسسة اللبنانية للانتشار حاملة إرث قاديشا ومشروع ربط أبنائها بجذورهم أينما كانوا في أصقاع العالم. يختصر بشخصه ذلك الجيل من اللبنانيين الذي آمن بمشروع الموارنة التاريخي وحققه أي بالدور الكبير للوطن الصغير وعمل له، وآمن ولا يزال بتركيبته التعددية وبقدرة مجموعات متشابهة ومتغايرة في آن على التفاهم وبناء تجربة فريدة تقدم نموذجاً للاقتداء لكل المجتمعات التعددية في العالم، من غير أن تيئسه الكبوات الكثيرة في أية حال.
وفي شخص الوزير إده يتجسد حلم الموارنة بالثقافة الجامعة المتميزة والنبالة الراقية القادرة على محاورة كبار العالم وجبابرته، كما ضعفائه، والمستعدة لواء قضايا الشعوب المستضعفة.
معالي الوزير، لك أن تفخر بأنك تجسيد حي لحضور الآباء المؤسسين للتجربة اللبنانية، ولك أن تستمتع بما بلغته من مرتبة في وجدان جعلت الجميع يسلمون بأنك البطريرك المدني للموارنة دون منازع.
***
كلمة معالي الأستاذ ميشال اده
في ندوة جامعة الروح القدس - الكسليك
عن رواية «قاديشا» للكاتب اسكندر نجار
الكسليك - ٢٠١٢/٣/٢٩
أيّها الأصدقاء
هذه «القاديشا» التي اعتبرها كاتبها رواية بالخطّ العريض، أبحت لنفسي، قارئاً، أن أعتبرها إيقونة.
غريب حقاً أمر هذا الأثر الأدبي - وما أنا بناقد أدباً يوماً :
هل هو سحر ذلك الماضي العريق الذي يحملك على الحنين إليه كل هذا العنف المتفشي في حاضرٍ، هو في غاية القلق والاضطراب ؟ لا سيما وأنّ كاتبنا أدرى بأنّ توسّل الماضي وامتشاقه سلاحاً في صنع التغيير الحاضر إنّما هو شيمة سلفية بامتياز.
أم أنّه، هذا الأثر، في حقيقة أمره، قراءة مخلصة في جغرافية الألم الحاضر ؟ لا سيما وأنّ كاتبنا أدرى بأنّ تراجيديا الزمن لا مسرح آخر لها غير الحاضر. ولعلّ أشدّ معالم هذا الحاضر، الراهن جداً جداً، والتي يفاجئنا بها الكاتب، توقّفه عند يوميات بدايات الأحداث العاصفة في سوريا.
ما أنقذني من هذه الحيرة بحقّ حقيق، تلك العبارة الخفرة التي أوردها اسكندر نجار بقلمه في مقدّمة هذه الإيقونة، وتقول : «العودة الى قاديشا أشبه ما تكون بالاستحمام بالأمل». إنّما بأيّ معنى، ما دام يستحيل على أمر المستقبل أن يكون وراءنا ؟
اسكندر نجار لا يتطلّع قطعاً الى تحقيق سبق روائي ما، بالمعنى الدارج لعبارة «سبق صحفي». بل إنّه يستدرج القارئ في رحلة الى الذات. بل حسناً جداً ما فعل، عندما أوحى للقارئ بأنّها رحلة أشبه أن تكون رياضة روحية، كفيلة ببعث الأمل رغم المشقّات الملازمة لها.
أحسب أنّ الأمل الذي استحمّ الكاتب به، ويهدهد قارئَه في آن، يطالبنا بأن نستذكر ما قد جرى، إذا شئنا التفاؤل بما سوف يأتي.
هنا تنفتح المغاور في بطون صخور الوادي المقدّس على جنانٍ من السموّ الإنساني، ومن الكرامة الإنسانية التي اختار اسكندر نجار أن يكون التعبير عنها في مرّة من مرّات هذه الكرامة، على لسان لورانس العرب في «أعمدة حكمته السبع» عندما تعرّض للاضطهاد الوحشي في درعا على أيدي العسكر العثماني قائلاً : «في درعا انْتُهِكَتْ كرامتي».
حياكة الأمل من رَحِمِ الألم : تلك هي ملحمة الكرامة الإنسانية التي تكثّف جوهر المارونية الخفّاقة في حنايا قاديشا وفي حبّات ترابها، وفي نبْل التضحيات والتقشّف، والنسك، والمقاومة، والصمود، التي عمّرت هذه الدنيا - اللبنان، حصناً منيعاً للدفاع عن الإنسان في حرّيته، ووطناً رائداً في التاريخ والجغرافيا، ببناء كيان ومجتمع على أساس الحقّ في الاختلاف واحترام الآخر وقبوله باختلافه.
هل يتعيّن عليّ أن أتوقّف معكم عند كلّ محطّة من محطات وادي الذخائر هذا، وأستعيد على مسامعكم ما تسطّره هذه الإيقونة، بالدم الزكي، من بسالة مسيحية مثال، دفاعاً عن إيمان الموارنة ووجودهم، تشبّثاً بالمعتقد وبالأرض، باذلين في هذا السبيل أعزّ ما يملكون : الروح والجسد، والأرض في الوعر الذي أزهروه اخضراراً وقمحاً وحياة ؟
سبعةَ أشهر من المكابدة والمجاهدة والشهادة : في عاصي الحدث. في عاصي حَوْقا. في مواجهة حملة والي الشام على الأمير فخر الدين الدرزي. بطريركاً تلو بطريرك، ومطراناً تلو مطران، وراهباً تلو راهب، وفلاحاً تلو فلاح… في مقدمة الصامدين والمقاومين، وامرأةً وطفلاً تِلوَ وتِلوَ وتِلوَ…
البطريرك لوقا البْنِهراني الذي استشهد قائداً للمقاومة ضد حملة السلطان المملوكي، ومعاونه الأب نصرالله الذي خرّ صريعاً بسهم ٍمملوكي، ما حمل ميلاد، إحدى شخصيات رواية «قاديشا»، على التصدّي للسلطان المملوكي الذي سخر من مقاومة الموارنة فيما نَصْل سيفه بعنق الأب نصرالله :
«عنادكم كلّفكم الكثير».
فعاجله ميلاد بعبارة الكرامة :
«ما تسمّيه عناداً أسميه أنا استقلالاً».
هذه الاستقلالية، هي النبض الحيّ المتحفّز أبداً في صلب التراث الماروني. حتى ضدّ الصليبيين كذلك، تشبّث الموارنة بهذه الاستقلالية : تكفي الإشارة الى توقّف الكاتب عند مواجهة البطريرك لوقا البْنِهراني المنتخب من قبل الاكليروس الماروني البطريرك الثماني والثلاثين، لإقدام أمير جبيل الصليبي آنذاك على تعيين إرميا الدملصي بطريركاً على الموارنة.
صرخةُ البطريرك لوقا اسمعوها : «نزلوا في أرضنا، وحاربوا المماليك، واحتلّوا مدننا (سمّى وجود الصليبيين احتلالاً!) حسناً ! لكن عليهم ألاّ يتدخّلوا في شؤوننا الداخلية… لقد اغتصبوا حقوقنا. وانظر ما كانت النتيجة : الشعب ضائع لا يعرف من هو رأس الكنيسة. لم يكن ينقصنا إلاّ هذا… يدقوا راسون بالحيط : لن أستقيل».
هنا يكمن سرّ استمرار الوجود الماروني، كنيسة وجماعة و… لبناناً، على مرّ القرون. إنّه سرّ يكمن في اثنين معاً : التجذّر والانفتاح. وهذا منذ أن استيقظت هذه الرقعة الجغرافية مهداً وموئلاً للمسيحية المارونية الوليدة، وصولاً الى الأحوال الحاضرة التي تحوّلت فيها منطقتنا بفعل النزاعات والحروب المندلعة بخاصة في القرن العشرين الفائت ومطالع القرن الحالي، الى بؤرة صراعات إقليمية دولية تضني شعوب هذه المنطقة وتقلق العالم في آن، لا سيّما مع التفشّي المنظّم لوباء التعصّب ونزعات التطرّف والإرهاب المتزايدة الساعية الى الإجهاز على التنوّع، وفرض التماثل والأحادية بالإكراه وبالعنف.
أَفليس هذا ما تقوله صياغة «قاديشا» الروائية بربطها روحية تلك العراقة بأحدث ما ينتاب أوضاع محيطنا العربي من متغيّرات ؟
أَفليس من شأن هذا التوقّف «الماضوي» شكلاً، إنّـما الحاضر روحاً وروحية وفعلاً، أن يلفت انتباه الموارنة واللبنانيين قاطبة ومجدداً، الى أنّ التراث المسيحي المشرقي والماروني منه بخاصة، ما كان يوماً جوهراً جامداً مكتفياً بذاته. ولا فقط وجهة نظر خاصة أو فريدة في تاريخ الخلاص. ولا أبداً مجرّد كنيسة توهّمت الانزواء درباً الى الإيمان. بل هي أدركته، هذا الإيمان، ثمّ قاومت وقاومت عنه ومن أجله، لأنّه لم يفتها سرّ التجسّد. أجل، لقد أدرك الموارنة، كنيسة ومؤمنين، إكليروس وعلمانيين، أن كنيستهم ليست من أجل ذاتها. بل عليها دائماً أن تكون حاضرة في بيئتها ومن أجل المجتمع كلّه، ولخدمة قضايا الإنسان المحورية المحقّة.
القراءة المعاصرة التي تقترحها «قاديشا» اسكندر نجار من أجل أناسه بأجمعهم، إنّـما تسهم فعلاً بترسّخ الوعي لدى الموارنة بأنّ حضورهم اللبناني، بالمنظور الإيماني وعلى الصعد السياسية والثقافية والمجتمعية بعامة، ما كان ليستوي من قبل، وليس له أن يستوي ويستقيم اليوم، إلاّ في مواجهة نقيضين : الانعزال، والعدمية أو الذوبان. فكلاهما شرّ قاتل : الانعزال يلغي رسالَتنا، والذوبان يقضي على حامليها.
ويحسن بنا جميعاً أن لا ننسى أبداً، ذلك الانتباه الماروني الباكر جداً الى فضيلة الانفتاح، والى إرادة الحوار المتكافئ، بديلاً خصباً حقيقياً من قوقعةٍ سقيمةْ، ومن طغيانِ أحاديةٍ وفَرْضِ تماثلٍ يتلبّسان العدمية للقضاء على الخصوصيات والتنوّع.
عندما اعتبرت «قاديشا» إيقونة، فلأنها لوحة رائعة على عراقة الموارنة وحضورهم الفاعل المتألّق، طاعنين في هذه الأرض، مستمرّين بتعميرها في هدي كنيستهم هذه، حتى عندما كان الأمر يتطلّب إرواء أرضهم اللبنانية بالدماء. بل هي، الى ذلك كلّه، احتفاء بلبنانَ ذاته، هي رحلة الى الذات اللبنانية ذاتها، هذا اللبنان الذي بادر الموارنة الى تأسيسه والمحافظة عليه بيئة مجتمعية قائمة على التنوّع الديني والتعدّد الثقافي، وكانوا المسهمين الأُوَل بصوغه وطناً ثم دولة حديثة. لم يشاؤوه وطناً مارونياً، ولا دولة للموارنة، وإن كان ذلك بالمتناول السهل.
لقد مكّنتني قراءة روايتك هذه، أيّها العزيز اسكندر، من أن أرى إليها قراءة مارونية حقّة، لبنانية حقّة. قراءةً لهوية لبنان ولدوره بما هما صنوان متلازمان في بيئته العربية.
أجدادنا الموارنة، بصمودهم في مواجهة كل محاولات فرض الأحادية، وكلّ مصادرةٍ للحقّ في الاختلاف، وكل المجازر اتي أُنْزِلَتْ بهم لكونهم مختلفين، لم يدعوا مقاومتهم الملحمية تلك أن تتّخذ طابع ردّات الفعل الإنتقامية، الثأرية، الجاهلية. رغم كلّ الوحشية التي قوبل بها تمسّكهم بالحقّ في الاختلاف. لم يسمحوا لأنفسهم يوماً أن يتنكّروا لهذا الحقّ حتى تجاه من أنكروه عليهم. لم يمارسوا يوماً ذلك الباطل، في سياق دفاعهم عن هذا الحقّ. دائماً وأبداً، واجهوا العدوان على الحقّ في الاختلاف بالمزيد وبالمزيد من الإصرار عليه حقاً للجميع. فكان لهم أن نجحوا في شرعنته لجميع العائلات الروحية في مثال نظامنا البرلماني الديموقراطي الذي بادروا الى بنائه وترسيخه على أساس التمثيل السياسي المتوازن لجميع عائلات لبنان الروحية.
أجل، لقد جعلتني مطالعتك، أيّها الصديق المحامي اللاّمع، في هذا الأثر، أنتبه أكثر فأكثر الى ترابط الهوية بالدور بالنسبة للبنان، ولا سيما في مثال الحداثة والنهضة العربية، اللغوية الأدبية العلمية الثقافية والتحررية، التي أنضج عواملها وفتّح إنجازاتها الموارنة ومن لبنان بالذات، ثمّ في بيئتهم النهضوية الثانية التي أسهموا بإطلاقها في مصر أيضاً، وفي المهجر.
لولا التراث القنوبيني، لما كانت أينعت هذه النهضة. وهذا أيضاً جديدٌ توحي به «قاديشا»، حتى وإن لم تتقصّد الرواية ذلك. فأوّل مدماك في بناء النهضة إنّما بدأ منذ إذْ ذاك بأوّل مطبعة في هذا الشرق، وعلى كتفي المطران سركيس الرزّي، آتياً بها الى دير مار قزحيا في وادي قنوبين. وأول مطبعة إنّما تعني كذلك أوّل كتاب في دنيا العرب غير مخطوط وغير منسوخ، وإن بالكرشونية، أي بالعربية إنّـما بأحرف سريانية. ومن أول كتاب، (وهو مزامير داوود-عام .١٦١)، الى أول مدرسة، وإن إكليريكية، تأسّست في كنيسة سيدة حوقا عام ١٦٢٤، قاوم قاوم الموارنة بالكتاب وبالمدرسة كذلك.
هنا، إذن، من هذا الوادي بزغ فجر النهضة مع ذلك الغرس الأساس، الأول، للبذور التي سوف تطلع شمس صباحها متفتّحةً لتنقل العالم العربي من طور انحطاط الى طور نهوض حقيقي، في السياسة والتحرّر من النير العثماني وفي العلوم والمعارف. وفي رفع بيارق الحرية دائماً.
لذلك، كان طبيعياً فعلاً، وحقيقياً جداً، أن تنختم مِلْونَة palette «إيقونة» قاديشا بجبران خليل جبران، أبرز روّاد نهضتنا العربية الحديثة. وهذا، ليس لأنّ اسكندر نجار سبق واشتغل في بعض من تآليفه على هذا العَلَم اللبناني العالمي البارز. وليس فقط لكون جبران ابن وادي قنوبين، سابحاً في ماء قاديشا، مستنشقاً أريج مغاراتها وعُصارات الإيمان الخالص من نُسّاكها…
حضور جبران، أراه تتويجاً بل وسيلة الإيضاح الأنضج للدلالة على الجوهر النهضوي الأساس الذي كان لا يمكن إلاّ أن يحدث وإلاّ أن يأتي، نظراً لهذين التجذّر والانفتاح.
أمّا آخر هذه التحية الى عزيزي اسكندر، فالتصريح عن تصوّرٍ خالجني فيما أفرغ من قراءة آخر سطر في آخر صفحة من هذا الكتاب، ألا وهو أنّ الكاتب يظهر للموارنة بأنّهم لا يسعهم - ولا يحقّ لهم - أن يتناسوا أنّهم همْ خميرة لبنان، وصليبه في أوقات الشدّة، في آن.
اسمحوا لي، أن أستذكر هنا صوت الأب الراحل ميشال حايك يؤكّد ذات مرّة في كاتدرائية مار جرجس في بيروت:
أمّا نحن معشر المسيحيين الشرقيين وقد ألفنا من المسيح وجه صليبه، وأُعْطينا خبرة التمرّس بآلامه، فقد بقي علينا أن ندلّ على مغازي الألمْ جميع الذين فاجأهم الألم من دون خبرة به لئلاّ تضيع الآلام هدراً على أصحابها ويخيب الفداء.
ولكم أن تلتقطوا كم أنّ هذه الإيقونة عن «قاديشا» تستشرق الأمل من رَحِمِ الألم، فيما يتعدّى تآلف الحروف الى توحّد الجوهر. أَوَليس هذا روح ماروني كذلك ؟
كلمة أنطوان سعد مقدّمًا الأباتي بولس نعمان:
عندما قررنا مع حضرة الكاتب تنظيم هذه الندوة كان قدس الأباتي ومعالي الوزير الخيار الأول إن لم يكن الوحيد. في الحقيقة كانا الخيار الوحيد، إذ لم نجرأ على التفكير بغيرهما.
لا أحد تبحّر بالأباتي نعمان أكثر مني، ربما أحبه البعض وقدّره الجميع بمقداري. وما توصلت إليه هو نقطة الانطلاق التي جعلتني ألحق به وأتبعه بالأساس. وإليكم ما انطلقت منه وما وصلت إليه:
بعدما كان قدس الأباتي أول نبش الجذور التاريخية لنشأة الموارنة في شمال سوريا، وأثبت مرجعيته العلمية في تاريخ ولادة الفكر الماروني، حمل لواء المارونية الجديدة ولكن المتأصلة في تربة قاديشا ومع مرور الزمن برهن أمرًا أكيدًا: إنه هو قاديشا، الروحية والوطنية والفكرية المتجسدة، إنه قاديشا السائرة على قدمين، إنه قاديشا العاصية والفخورة والبسيطة المتقشفة في آن، إنه قاديشا بكل ما تحمله من معان وتناقضات. أما آخر تجليات القاديشية فيه، فكان غداة الطلب إليه أن يتكلم في هذه الندوة، إذ في اليوم التالي فقط أي قبل نحو شهر، أرسل إليّ الكلمة التي ستسمعونها وسترون فيها شغفه بقاديشا وبما تمثله.
كلمة قدس الأباتي بولس نعمان
ان الأمم العريقة، التّي كان لها شأن في نشوء تمدّنها وحضارتها، لا بدّ أن يمتزج فيها التاريخ بجذور الميتولوجيا، والمبدع من مؤرّخيها والرّوائي الناجح الذّي يفتّش عن مآثرها، هو الذّي يعرف أن يناغم بينها، بمعنى أن لا تطغى الأسطورة على التاريخ، ولا يُجَفِّف التاريخ رونق الأسطورة وإيحاآتها. وأمّتنا اللّبنانية، منذ مغاور قاديشا، وعاصي الحدد، ومحابس وادي قزحيا؛ منذ ابن القلاعي والبطريرك اسطفان الدويهي ومرهج بن نيرون... رَفَضت أن لا يكون لتلك المغائر والكهوف والوديان تاريخٌ قَصّصي، لأنها تدرك جيّداً، أن الشعب الذي لا يكتب تاريخه يُضيِّعه التاريخ، وتتجاهله الأسطورة.
انطلاقاً من هذه الحقائق سمحنا لنَفسِنا، نحن الذين أعطي لنا، ولو بقدرٍ زهيد، أن نكمل هذا التاريخ، وأن نقول بماذا يتمايز شعبنا، دون أن يتميّز. لأن التَمَيُّزَ كبرياء، والكبرياء أبعد شيء عن فكرنا وقلبنا، ولكن قولُ الحقيقة وتوريثُها هي التي تستحق الذكر والبقاء.
كما سمحنا لنفسنا أن نُظهِرَ أصالة أمّتنا، ونربطها بأمجاد أرضنا حتى تعيش بعمقٍ أبعاد هُويتها. ولولا هذه الثلاث أي: أمجاد الأرض، وأصالة الأمّة، وتمايز الشعب، لأصبحت أمّتنا كالسنديانة العتيقة التي نضبت حيويتها فأصبحت بلا أصول وشارفت على اليباس.
فنحن لا نعرف أمّة صمدت بوجه العواصف والأعاصير وكانت تجهل تاريخها، أو كانت بلا أرض ولا تراث ولا أمجاد ولا أبطال ولا قديسين يعرف كل فرد من أبنائها أن يحكي حكايتهم ويقصَّ قَصَصهم ويقتدي بهم.
ولكنّنا لا نكتب عن عظمة أمتنا وحسب، بل نكتب أيضاً عن ضعفها وَوَهَنِها، عن عذاباتها ومصائبها، وعن جلجلتها، وبهذا يعرف أبناؤها شيئاً عن قدرتها في الوقوف بوجه المحن والأعاصير، وبهذه نعرف أيضاً ذاتنا، لأننا لا نستطيع أن ننفتح على غيرنا قبل أن نكون قد تعرفنا بعمقٍ على ذاتنا، لنتمكن من الالتقاء مع الغير بأخوّة ومحبة هي جوهر ديانتنا المسيحية.
راودتني هذه الأفكار وأنا في مستهل عملي في الجامعة، افتتح معهد التاريخ وأحَضِّرُ مع صديقي الدكتور قيصر نصر ومع أنطوان وميفا باخوس، سلسلة "قصّة الموارنة" (Bandes dessinées) بطريقة مُشَوِّقة للمعطيات التاريخية التي نبني عليها تراثنا الوطني، والتّي صدر منها فقط، لسوء الحظ، عددان: "موران"و"سمعان" لأن الأحداث قد فَصَلَتْنا في مطلع السبعينات، لا لنكتب التاريخ بل لِنُسْهِم في صنعه مع رفاق أحبّاء ضحّوا بدمائهم وبكل ما يملكون في سبيل الأمّة والوطن.
وكم فوجئت وفَرِحَ قلبي عندما وقع نظري على عنوان هذه القصة "قاديشا" للمؤلّف الكسندر نجّار وأنا أزور، لأشهر خلت، معرض الكتاب الفرنسي، فالتهمتها التهاماً، وشكرت ربّي، وزدت ثقةً بالعناية الإلهية التي رافقت هذا الشعب وتلك الأمّة، وهي لا تزال، حتّى الساعة، توفّر لها المواهب الفتية والملهمين المشبعين علماً وروحانية، وردّدت تلقائياً مع مُلهم آخر "سوف نبقى..." نعم، سوف تبقى هذه الشعلة وتلك الرسالة حية وفاعلة في محيطها حتّى تَكْمُلَ إرادة الله فينا.
وكم أعجبت، بعد مطالعتها، وقدَّرت موهبة المؤلّف وبراعته كيف استطاع جمع حبات هذه السبحة الذهبية، وسكب فيها روحاً جديدة من شأنها أن تعيد الشعلة إلى قلوب الأجيال الطالعة، وكيف آلف بين شخصياتها وأبرز مواهبها المختلفة، من البطريرك الرزّي الذي أجهد النفس في تركيز أول مطبعة في الشرق في دير مار أنطونيوس- قزحيا، مئتي سنة قبل أن يحمل نابليون المطبعة الأولى إلى مصر، إلى لوقا البنهراني، الذي وقف في وجه المماليك، أعتى الطغاة الذين كانوا وبالاً على اللبنانيين، إلى مارينا التي شرّفت وقدَّست الثوب الرهباني، بنسكها وطهارتها، إلى النّاسك الفرنسي François de Chasteuil الذي ترك أهله وعائلته في Aix، في فرنسا، ليصبح حبيساً في جبل لبنان، فزاده قداسة، إلى جبران خليل جبران الذي استقى، بنبوغٍ خارق من ايحاآت هذه الأرض المقدسة ونشرها في العالم أجمع.
شكراً للمؤلّف الموهوب الذي حقق هذه الأمنية الغالية، وفتح باباً من شأنه أن يعيد الروح إلى جسم قد أصيب بشيء من التَرَهُّل والهزال حتى كاد أن ينسى قيمة وعظمة تراثه.
كما اشكر، باسم المؤلف وباسمي الصديق الناشر الأستاذ انطوان سعد الذي اثبت بالسرعة القياسيّة التي نشر فيها هذه الرواية مترجمة الى اللغة العربيّة، أنه هو ايضاً يتوق ويعمل لكي يُعيد هذه الشعلة كاملة الى قلوب الأجيال القادمة، لتبقى ويبقى لبنان مُلهِماً للخير وللحقّ وللقداسة.
***
كلمة أنطوان سعد مقدّمًا اسكندر نجّار:
معالي الدكتور طارق متري بما يمثله وبما أنجزه على المستوى الشخصي والوطني هو أحد علامات انتصار قاديشا كمشروع جامع ببناء وطن يضم الجميع ويعطي الفرص لكل المتميزين من أبنائه لكي ينجحوا ويتولوا المسؤوليات على المستويات كافة، وبخاصة مسؤولية إقامة حوار دائم بين المكونات الطائفية التي تستظل سماء لبنان. وفي هذا الإطار، يشكّل الدكتور متري علامة مضيئة تحمل مشعل التآخي والقبول بالتنوع والحق بالاختلاف مكمّلاً رسالة قاديشا حيث حلم الآباء المؤسسون بمثل هذا الوطن الجميل حيث يتمتع كل إنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ومعتقداته بكامل حقوقه الإنسانية.
كلمة اسكندر نجّار:
أشكركم على حضوركم هذه الندوة وأخصّ بالشكر جامعة الكسليك لإستضافتنا والمشاركين في الندوة الأباتي بولس نعمان ومعالي الوزير ميشــال إدّه ومعالــي الوزير طارق متري على كلماتهم القيّمة . كما اشكر دار سائر المشرق والسيد انطوان سعد لتنظيم هذا اللقاء.
منذ بداية مشواري في الكتابة ، سافرت إلى مدنٍ عدّة مثل برلين وشيكاغو لكتابة رواية " برلين 1936 " و الى فلورنسا لكتابة رواية " الفلكي " وإلى جزيرة كريت متتبّعاً المقاومين اليونانيين ضدّ المحتلّ العثماني لكتابة رواية " أثينا " وإلى الأردن حيث كتبت رواية عن الشركس عنوانها " دروب الهجرة " وإلى فرنسا لكتابة سيرة شخصية سيرة المدّعي العام إرنست بينار الذي حاول منع روائع فلوبير وبودلير " Les fleurs du mal " و" مدام بوفاري " .
ملأتني هذه الرحلات دهشة وجعلتني أقتنع بان السفر والرواية يتشابكان ويتمازجان فهما كما الواقع والخيال ليسا في النهاية سوى وجهين لحقيقة واحدة . وفي كل مرّة كانت تنقصني فيها الوقائع التاريخية كانت المخيّلة تتدخل وفي كل مرّة عزّ فيها الخيال كان الواقع حاضرا لتزويدي بروايات وروايات ...
تعرّفت على هذه المدن والبلدان لكنني لم أجد في أيٍّ منها ما وجدته في وادي قاديشا ، ليس لأن هذا الوادي أجمل من سواه فحسب ، بل لأن هذا الوادي يكتنف روحانية وانسانية لا نجدها في أي مكان آخر . فهذا الوادي يرمز إلى كفاح مسيحيي الشرق المتواصل من أجل الشهادة للمسيح وللحق . و المسيحيون ليسوا ضيوفا ولا دخلاء وانما هم جذور هذه الارض وثمارها التي فاضت وتفيض على العالم محبة وتسامحا ونشاطا انسانيا لخير المجتمع والانسان. مسيحيا كان أم غير مسيحي. ولانهم كذلك، نالهم الظلم والاضطهاد أحيانا كثيرة حين ساد الظلام والاستعباد المنطقة، فلجئوا الى الجبال والوديان الوعرة تمسكا بقيمهم وحفاظا على رسالتهم، وهم هناك أيضا كانوا مدارس ومطابع وأديرة مشعّة ولم يكونوا انعزالا أو نأيا بالنفس عن الآخرين.
هذه المدارس والمطابع هي التي حفظت اللغة العربية سنوات طويلة في وحه تتريكها وهي التي أطلقت فيما بعد النهضة العربية التي للمسيحيين فيها الدور الاعظم. . هذا الكتاب، أردته تحيّة إلى معقل تراثي كبير يقتضي المحافظة عليه وصونه، أردته تحيّة إلى ذكرى البطاركة و الناسكين والرهبان والراهبات والفلاحين الذي رووا بدمائهم هذه الأرض المقدّسة ّ. اليوم، يخشى البعض على مصير المسيحيين في الشرق، خصوصاً في ضوء وصول الاسلاميين إلى الحكم بعد أن أطاحت الثورات العربية بالطغاة. يعتقد البعض أن هذه الثورات لم تنته ون إزاحة الطاغية هو بداية المشوار لا نهايته مذكّرين بأن الثورة الفرنسية لم تسفر عن ديمقراطية حقيقية إلى بعد 120 سنة على حصولها ، فالوقت برأيهم كفيل بإرساء الديمقراطية الحقيقية و الديمقراطية تطوّر نفسها بنفسها و الاسلام السياسي سيتّجه حتماً نحو النموذج التركي المعتدل . فيما يعتقد البعض الآخر ان هــذه الثــورات بيّنــت حقيقــة المجتمعات العربية حيث الدين يلعب دوراً رئيساً كونه ملاذ لملايين المواطنين الغارقين في فقرهم وجهلهم ويأسهم أمام سلطة مستبدة لم تتترك لهم خيارات بديلة. ويعتبر هؤلاء أن هذه الموجة الاسلامية الكاسحة ستصيب الاقليات الدينية بنكسة كبيرة...
أما نظرتي الشخصية فهي أكثر تفاؤلا. أولاً لأن المسيحيين، تعوّدوا الصمود ولن يتنازلوا عن حقوقهم أو يضحّوا بوجودهم. وجاءت "قاديشا" اليوم لتذكرنا بتاريخ نريده حاضرا، ثانياً لأن عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، ولاسلاميين الظافرين بالحكم على حصان الديمقراطية، لن يستطيعوا قتل الحصان لانهم بذلك سيسقطون عنه...وليست وثيقة الاخوان المسلمين في سوريا قبل أيام، سوى خير دليل على أنهم استخلصوا الدرس وأنه لا نجاح بالاستئثار والتعصب واقصاء الآخر...ونحن هنا بقدر حضورنا وتفاعلنا نبقى ركيزة أساسية من الركائز التي تستقرّ عليها المجتمعات العربية بحيث يؤدّي أي خلل في تلك الركائز إلى زعزعة هذه المجتمعات وإلى القضاء على التعدّدية التي تغنيها . ووثيقة الأزهر الصادرة منذ اشهر تعبر أيضا عن هذا المنحى الايجابي . إن المسيحيين كانوا وسيبقوا دعاة حريّة في الشرق . ولعلّ السيد المسيح هو أهم من ناضل من أجل حرية الإنسان وكرامته حتى قال فيه André Malraux في كتابه L'Espoir :
"Le Christ? c'est un anarchiste qui a réussi, c'est le seul".
من هنا ، فإن كفاح المسيحيين من أجل الحريات وضدّ الظلم والديكتاتورية ليس صدفةً أو فرضية ، بل هو واجب ودليل وفاء للرسالة المسيحية التي تدعو إلى السلام والمحبة والأخوّة.
من اللافت أن العديد من الادباء اللبنانيين تناولوا ايضا مؤخرا منطقة شمالي لبنان وتحديداً قرى بشري وزغرتا وإهدن وغيرها من القرى المجاورة لوادي قديشا في كتب وروايات مختلفة . وهذا ان دلّ على شيئ فانما يدلّ على وجوب العودة إلى الجذور وإلى التاريخ لنستقي منه الروحانية ولفهم التحدّيات التي واجهت وستواجه مجتمعاتنا . إن هذه الموجة تشكّل أكبر دليل على أن الكتاب يبقى مخزوناً للذاكرة ومدرسةً حقيقية ومصدَر تأمّل وتحليل لا غنىً عنه.
وفي النهاية ، لا بدّ لي من التشديد على أن هذه الرواية تعكس قناعتي بأن " لبنان الرسالة "، تلك الفكرة التي أطلقها البابا يوحنا بولس الثاني ، ليس وهماً ، بل هو واقع ملموس في بلد نهائي لجميع اللبنانيين تُراعى فيه التعدّدية وتصان فيه الحريّات .
وشكــراً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق