Hrair
كانت الثقافة من صلب الحياة اليوميّة لا دخيلة عليها ولا مفروضة، وليس فيها ادّعاء أو تزوير أو تبجّح. ولأنّها كانت كذلك، كنّا نلتقي بها في أيّ مكان ومن دون موعد مسبق أو احتفال أو مهرجان أو مكان مخصّص لها نقصدها فيه لنلتقيها ونجالسها ونسألها عن شؤونها ونشكو لها شجوننا. كانت الثقافة في كلّ مكان، وفي كلّ شخص، ولم تكن محصورة في نخبة برجعاجيّة.
بائع الخضار الجالس على عتبة دكّانه كان شاعرًا زجليًّا، يحفظ آلاف القصائد وينظم الكثير غيرها، يرثي في المآتم، ويهنّئ في الأفراح، ويؤرّخ لزيارة نائب أو مرور زعيم، يقفل دكّانه ويهرع إلى حيث الحدث من دون دعوة أو تحضير ليشارك الآخرين، فيعطيهم الشعر ويأخذ منهم الدموع والابتسامات. والنادل في المقهى كان شريكًا في الحالة الثقافية العامّة، يتابع وقائعها عبر الأحاديث التي تجري حوله، ويلتقط المعاني والصور والثورات عن طاولات يجتمع حولها شعراء ومفكّرون ومسرحيّون وثوّار هاربون من بلادهم. وبائع الكتب لم يكن مجرّد تاجر يريد أن يبيع بضاعة لا يعرف شيئًا عن مضمونها، كان القارئ الأوّل، والناقد الأوّل، والمعلن الأوّل لأيّ كتاب، أكان من التراث أم من آخر ما أصدرته دور النشر، ولذلك لم تكن الزيارة إلى المكتبة هي بضع لحظات يقتطعها الزبون من وقته الضيّق ليشتري ما يريد، بل فسحة ثقافيّة يلتقي فيها كلّ من يتواجد في المكتبة في الوقت نفسه ليدخلوا كلّهم في حوار شيّق حول الكتب والمؤلّفين، لا مكان للتجارة فيه.
بائع الخضار الجالس على عتبة دكّانه كان شاعرًا زجليًّا، يحفظ آلاف القصائد وينظم الكثير غيرها، يرثي في المآتم، ويهنّئ في الأفراح، ويؤرّخ لزيارة نائب أو مرور زعيم، يقفل دكّانه ويهرع إلى حيث الحدث من دون دعوة أو تحضير ليشارك الآخرين، فيعطيهم الشعر ويأخذ منهم الدموع والابتسامات. والنادل في المقهى كان شريكًا في الحالة الثقافية العامّة، يتابع وقائعها عبر الأحاديث التي تجري حوله، ويلتقط المعاني والصور والثورات عن طاولات يجتمع حولها شعراء ومفكّرون ومسرحيّون وثوّار هاربون من بلادهم. وبائع الكتب لم يكن مجرّد تاجر يريد أن يبيع بضاعة لا يعرف شيئًا عن مضمونها، كان القارئ الأوّل، والناقد الأوّل، والمعلن الأوّل لأيّ كتاب، أكان من التراث أم من آخر ما أصدرته دور النشر، ولذلك لم تكن الزيارة إلى المكتبة هي بضع لحظات يقتطعها الزبون من وقته الضيّق ليشتري ما يريد، بل فسحة ثقافيّة يلتقي فيها كلّ من يتواجد في المكتبة في الوقت نفسه ليدخلوا كلّهم في حوار شيّق حول الكتب والمؤلّفين، لا مكان للتجارة فيه.
Hrair |
وأستطيع أن أستطرد في ذكر الكثير من الأمثلة تطال المزارعين ورجال الدين والأطبّاء والمحامين والصحافيّين والمطربين والموسيقيّين والمسرحييّن، وسائر شرائح المجتمع، غير أنّني سأكتفي بالإشارة إلى هذا التدهور من خلال ثلاث حوادث معبّرة، يفصل بين الواحدة منها والأخرى بضع سنوات. في المرحلة الدراسيّة الثانويّة، تفوّقت في مادة التاريخ، فأهداني معلّم المادة رواية زيّن صفحتها الأولى بإهداء جميل تقديرًا لنجاحي. عنوان الرواية " الموجة السابعة" وكتبها طبيب اسمه الدكتور رودولف خرياطي. أعجبني عهدذاك أن يكتب طبيب رواية أدبيّة تركت أثرها الكبير في نفسي وما زلت حتّى اليوم أحتفظ بها وأتذكّر الأستاذ منصور عقيقي الذي قدّمها لي من دون أن يجد نفسه مجبرًا كونه مدرّس مادة التاريخ على تقديم كتاب تاريخ في مباراة في مادة التاريخ. بعد ذلك بأعوام، دخلت المستشفى لإجراء عمليّة جراحيّة وكنت بدأت في النشر في الصحف، وجرى الحديث مع الطبيب المعالج حول الأدب والأدباء، وتبيّن أنّ الطبيب مثقّف كبير، ومغرم بمطالعة كتب الأدب والفكر، وكان حين يعودني في المستشفى ننسى أنّ نتكلّم عن حالتي الصحيّة، ويأخذنا الشعر والأدب إلى عوالم أخرى ملوّنة لا علاقة لها ببياض الغرفة الفارغ من أيّ معنى والبعيد عن الجمال والتنوّع.
ثمّ، باعدت الأيّام لحسن حظّ صحّتي بيني وبين الأطبّاء، حتّى أجبرني عارض صحيّ على استشارة طبيب، وحين سألني عن عملي، قلت له: الكتابة. فلم يعنه الأمر بتاتًا، غير أنّه سألني في اهتمام بالغ إن كنت مشمولة بتغطيتَي الضمان الصحيّ والتأمين ليقرّر أيّ نوع من الفحوص الطبيّة سيطلب منّي أن أجريها. وخلال الحديث، طرحت عليه سؤالاً طبيًّا، واستعملت كلمة باللغة الفصحى اعتبرت أنّها من مستوى لغويّ أرقى من اللغة المحكيّة (غثيان)، فلم يفهمها، وتمتم ساخرًا: في مجال تحكي بالعربي.
Hrair |
حين خرجت من عيادة الطبيب، استرجعت حكاية الطبيب الروائيّ، وحكاية الطبيب القارئ، لأصل إلى هذا الطبيب الذي من الواضح أنّه لا يكتب ولا يقرأ، واكتشفت أنّني في عمر واحد، كنت شاهدة على تدهور خطير وسريع في المستوى الثقافيّ، وأخذت أطبّق النتيجة على حالات أخرى:
الزجل اختفى،
باعة الكتب مراهقون جامعيّون يمرّون في المكتبات مرور الكرام،
وصاحب المكتبة يسأل عن حركة البيع، هذا من دون ذكر المكتبات التي أقفلت بعدما وقعت في العجز الماديّ،
والنُدل صاروا موظّفين عابرين لا علاقة لهم بالمكان والوجوه.
ويزداد الوضع ضبابيّة حين نستعيد أسماء الذين رحلوا من الأدباء والمفكّرين والمثقّفين، ونكتشف في الوقت نفسه أنّنا صرنا قادرين على وضع أيدينا على عدد هائل من المعلومات في لحظة واحدة، غير أنّ المؤهّلين لتحليلها والاستنتاج منها وإيصالها إلى الناس باتوا نادرين.
ولهذا علينا أن نذرف الحبر والدموع على الثقافة في حدّ ذاتها لا على الراحلين من المثقّفين.
***
أيلول - 2009
الزجل اختفى،
باعة الكتب مراهقون جامعيّون يمرّون في المكتبات مرور الكرام،
وصاحب المكتبة يسأل عن حركة البيع، هذا من دون ذكر المكتبات التي أقفلت بعدما وقعت في العجز الماديّ،
والنُدل صاروا موظّفين عابرين لا علاقة لهم بالمكان والوجوه.
ويزداد الوضع ضبابيّة حين نستعيد أسماء الذين رحلوا من الأدباء والمفكّرين والمثقّفين، ونكتشف في الوقت نفسه أنّنا صرنا قادرين على وضع أيدينا على عدد هائل من المعلومات في لحظة واحدة، غير أنّ المؤهّلين لتحليلها والاستنتاج منها وإيصالها إلى الناس باتوا نادرين.
ولهذا علينا أن نذرف الحبر والدموع على الثقافة في حدّ ذاتها لا على الراحلين من المثقّفين.
***
أيلول - 2009
هناك تعليقان (2):
أعتقد أن المطالعة في حدّ ذاتها أصبحت نوعا من الرفاهية بعد أن كانت ملجئا للكثيرين... ثم لا ننسى ثمن الكتاب الذي أصبح خياليا على ضعاف الدخل من أبناء هذا الشعب المفقّر أصلا... في تونس مثلا نمر على المكتبة لنرى العناوين الجديدة و أشكالها الخارجية فشراء كتاب يكلف نادل المقهى مثلا ثلاثة أيام عمل دون مصاريف ... إذا فالكتاب ليس في متناول الجميع.
أوافقك القول يا صديقي الحلاّج إلى حدّ ما، وفي بعض البيئات، ولكن انطلاقًا من المجتمع اللبنانيّ أستطيع القول أنّ هناك مبالغة في اعتبار ثمن الكتاب هو العائق أمام كلفة الكثير من الكماليّات التي لا يحرم كثر أنفسهم منها كالهاتف الخلويّ والسهر والتدخين...
علمًا أنّ هناك بدائل عن الكتب والصحف في المواقع الإلكترونيّة، ومع ذلك فكثر يمضون أوقاتهم في الدردشة على الويب لا في تحصيل الثقافة...
شكرًا على مرورك وإضافتك
إرسال تعليق