(2009)
المشهد الثقافيّ في أدقّ تفاصيله غارق في الانفعال ما لا يدع مجالاً ولو لقليل من الفكر الناقد المحلّل. وحين يقصي مجتمع بكامله الفِعل والتفاعل من قاموسه ليحتفظ بالانفعال وسيلة للتعبير فلن نتوقّع أن ترتفع لغة التخاطب عن مستواها المتدنّي الذي انحدرت إليه.
بغضّ النظر عن تعريف كلمة مثقّف، يتّفق أكثر المفكّرين الذين عالجوا هذا الموضوع على أنّ للثقافة دورًا في قيادة المجتمع لا الغرق في مستنقعات أخطائه وخطاياه، وعندما يحصل ذلك أي عندما يتحوّل المثقّف طرفًا في صراعات المحاور ويمسي مجرّد كاتب شعارات، فلن ننتظر من الآخرين أن يحسنوا توجيه أنفسهم بعيدًا عن الأقوال الغريزيّة وردود الفعل الهوجاء. صحيح أنّ "البرجعاجيّة" في دراسة أحوال المجتمع مرفوضة لأنّها تصوّر الواقع عن بعد ولا تعيش تجاربه ولا تعاني ما يعانيه، ولكن يجب أن توجد مسافة معينة يبقيها المفكّر ممتدّة بينه وبين مادة دراسته كي يستطيع أن ينظر إلى الصورة بكامل عناصرها وجزئيّاتها. وبمعنى آخر، مطلوب منه أن يوجد داخل الصورة وخارجها في الوقت نفسه، وهي مهمّة صعبة ولكنّها ليست مستحيلة على من اختار واعيًا خوض غمارها وحمل مسؤوليّتها.
ما نشهده حاليًا هو عكس ذلك تمامًا، لقد انجرف أولئك الذي ادّعوا أنّهم النخبة الموجِهة في صراعات ضيّقة الأفق، محدودة الأهداف، وباتوا يعملون على تأجيج حدّة المواجهة في تسابق محموم لن يؤدّي إلاّ إلى مزيد من الصراعات. الفرق كلّه هو في أنّ لغة التشاتم والإهانات والتجريح هي غير تلك التي يستعملها العامّة، أمّا المضمون فواحد. الجميع يعطي دروسًا في العفّة والوطنيّة والعروبة ويقدّم جردة حساب بالتضحيات التي قدمت والدماء التي أهرقت، والجميع يسخر من الجميع، والكلّ يهين الكلّ، ولكن بلغة المعاجم والقواميس وبإعطاء أمثلة تاريخيّة ونظريّات فلسفيّة لا يفهمها إلاّ المعنيّون.
مع اقتراب مواعيد الاستحقاقات وانعكاسها على واقعنا اللبنانيّ، ترتفع حدّة التخاطب بين المثقّفين وتنحدر في الوقت نفسه القيمة الفكريّة لكلّ ما يقولونه، وكأنّنا نشهد برج بابل آخر، لا يفهم فيه أحد على أحد، لا بل لا يعرف الشخص نفسه ما هو موقعه وما هو دوره وماذا يريد أن يقول. فمن المحكمة الدوليّة التي ستبحث في قضايا الاغتيالات، إلى الانتخابات الإسرائيليّة والإيرانيّة واللبنانيّة، إلى تأليف الحكومة...وانتظار تأثير كلّ ذلك على وضعنا الداخليّ طريق طويل وشاقّ يعمل المثقّفون أنفسهم على تفخيخه بمختلف أنواع الألغام. وما الذي نسمعه أو نشاهده أو نقرأه عبر وسائل الإعلام إلاّ لمحة مختصرة عمّا يجري كلّ دقيقة في البيوت والمكاتب والمقاهي، حيث تقع المواجهات الكلاميّة العنيفة التي يخشى دومًا أن تتحوّل صراعات دامية. وعلى غير ما كانت عليه الحال في الماضي لم يعد السياسيّون هم الذين يتواجهون بل إنّ أتباعهم من الصحافييّن والشعراء ومقدّمي البرامج الحواريّة هم الذين يخوضون الحروب الكلاميّة بالنيابة عن زعمائهم، في حرب مفتوحة تستعمل فيها كلّ الأساليب المتاحة على اعتبار أنّه يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره، وعلى أنّ حريّة التعبير يحميها القانون، والنجوميّة تعطي حصانة لا تنتهك في سهولة.
العصور كلّها عرفت الهجاء والمديح والفخر، ولكنّنا وجدنا إلى جانبها الفكر والفلسفة وعلوم المنطق والدين والسياسة والاجتماع، فضلاً عن مجالات الإبداع الأخرى. أمّا ما يجري عندنا فلا يوضع تحت أيّ عنوان، فلا هو من الفكر ولا هو من الصحافة أو السياسة أو المنطق أو حتّى الفخر أو الهجاء أو المديح. هو صراع من أجل البقاء على حلبة مصارعة لا محرّمات فيها ولا حكم يعلن نهاية الشوط أو يمنع الضربات تحت الحزام. ولذلك بات كلّ شيء مشروعًا ومرحّبًا به وموضوعًا للتندّر في البرامج الفكاهيّة الساخرة. ومتى صار الهدف من الإبداع هو إثارة الضحك أو البكاء، التصفيق أو الصفير، الغضب أو الاعتكاف، فلا مجال لأيّ حديث منطقيّ علميّ منهجي، ولن يكون ثمّة مكان لأمثال نصر حامد أبو زيد وإدوار سعيد وأمين معلوف وعلي حرب والأب ميشال حايك والأب يواكيم مبارك والشيخ عبدالله العلايلي.
بغضّ النظر عن تعريف كلمة مثقّف، يتّفق أكثر المفكّرين الذين عالجوا هذا الموضوع على أنّ للثقافة دورًا في قيادة المجتمع لا الغرق في مستنقعات أخطائه وخطاياه، وعندما يحصل ذلك أي عندما يتحوّل المثقّف طرفًا في صراعات المحاور ويمسي مجرّد كاتب شعارات، فلن ننتظر من الآخرين أن يحسنوا توجيه أنفسهم بعيدًا عن الأقوال الغريزيّة وردود الفعل الهوجاء. صحيح أنّ "البرجعاجيّة" في دراسة أحوال المجتمع مرفوضة لأنّها تصوّر الواقع عن بعد ولا تعيش تجاربه ولا تعاني ما يعانيه، ولكن يجب أن توجد مسافة معينة يبقيها المفكّر ممتدّة بينه وبين مادة دراسته كي يستطيع أن ينظر إلى الصورة بكامل عناصرها وجزئيّاتها. وبمعنى آخر، مطلوب منه أن يوجد داخل الصورة وخارجها في الوقت نفسه، وهي مهمّة صعبة ولكنّها ليست مستحيلة على من اختار واعيًا خوض غمارها وحمل مسؤوليّتها.
ما نشهده حاليًا هو عكس ذلك تمامًا، لقد انجرف أولئك الذي ادّعوا أنّهم النخبة الموجِهة في صراعات ضيّقة الأفق، محدودة الأهداف، وباتوا يعملون على تأجيج حدّة المواجهة في تسابق محموم لن يؤدّي إلاّ إلى مزيد من الصراعات. الفرق كلّه هو في أنّ لغة التشاتم والإهانات والتجريح هي غير تلك التي يستعملها العامّة، أمّا المضمون فواحد. الجميع يعطي دروسًا في العفّة والوطنيّة والعروبة ويقدّم جردة حساب بالتضحيات التي قدمت والدماء التي أهرقت، والجميع يسخر من الجميع، والكلّ يهين الكلّ، ولكن بلغة المعاجم والقواميس وبإعطاء أمثلة تاريخيّة ونظريّات فلسفيّة لا يفهمها إلاّ المعنيّون.
مع اقتراب مواعيد الاستحقاقات وانعكاسها على واقعنا اللبنانيّ، ترتفع حدّة التخاطب بين المثقّفين وتنحدر في الوقت نفسه القيمة الفكريّة لكلّ ما يقولونه، وكأنّنا نشهد برج بابل آخر، لا يفهم فيه أحد على أحد، لا بل لا يعرف الشخص نفسه ما هو موقعه وما هو دوره وماذا يريد أن يقول. فمن المحكمة الدوليّة التي ستبحث في قضايا الاغتيالات، إلى الانتخابات الإسرائيليّة والإيرانيّة واللبنانيّة، إلى تأليف الحكومة...وانتظار تأثير كلّ ذلك على وضعنا الداخليّ طريق طويل وشاقّ يعمل المثقّفون أنفسهم على تفخيخه بمختلف أنواع الألغام. وما الذي نسمعه أو نشاهده أو نقرأه عبر وسائل الإعلام إلاّ لمحة مختصرة عمّا يجري كلّ دقيقة في البيوت والمكاتب والمقاهي، حيث تقع المواجهات الكلاميّة العنيفة التي يخشى دومًا أن تتحوّل صراعات دامية. وعلى غير ما كانت عليه الحال في الماضي لم يعد السياسيّون هم الذين يتواجهون بل إنّ أتباعهم من الصحافييّن والشعراء ومقدّمي البرامج الحواريّة هم الذين يخوضون الحروب الكلاميّة بالنيابة عن زعمائهم، في حرب مفتوحة تستعمل فيها كلّ الأساليب المتاحة على اعتبار أنّه يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره، وعلى أنّ حريّة التعبير يحميها القانون، والنجوميّة تعطي حصانة لا تنتهك في سهولة.
العصور كلّها عرفت الهجاء والمديح والفخر، ولكنّنا وجدنا إلى جانبها الفكر والفلسفة وعلوم المنطق والدين والسياسة والاجتماع، فضلاً عن مجالات الإبداع الأخرى. أمّا ما يجري عندنا فلا يوضع تحت أيّ عنوان، فلا هو من الفكر ولا هو من الصحافة أو السياسة أو المنطق أو حتّى الفخر أو الهجاء أو المديح. هو صراع من أجل البقاء على حلبة مصارعة لا محرّمات فيها ولا حكم يعلن نهاية الشوط أو يمنع الضربات تحت الحزام. ولذلك بات كلّ شيء مشروعًا ومرحّبًا به وموضوعًا للتندّر في البرامج الفكاهيّة الساخرة. ومتى صار الهدف من الإبداع هو إثارة الضحك أو البكاء، التصفيق أو الصفير، الغضب أو الاعتكاف، فلا مجال لأيّ حديث منطقيّ علميّ منهجي، ولن يكون ثمّة مكان لأمثال نصر حامد أبو زيد وإدوار سعيد وأمين معلوف وعلي حرب والأب ميشال حايك والأب يواكيم مبارك والشيخ عبدالله العلايلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق