(صحيفة البلاد - 2008)
كُتب الكثير عن الصفحات الثقافيّة، وقيل الكثير عن القيّمين على هذه الصفحات، ومع ذلك لا تزال هذه الصفحات خاضعة لمعايير المزاج تنفعل وتنقاد عوض أن تكون فاعلة وقائدة.
لعلّ السؤال الجوهريّ في هذه المسألة هو تعريف الصفحة الثقافيّة، وتحديد دورها ما دامت ضمن جريدة أو مجلّة وليست في مطبوعة متخصّصة لقرّاء متخصّصين. فقرّاء الصحف والمجلاّت يتوزّعون على مختلف الأعمار والاتجاهات والمستويات والأجناس، ومع انتشار هذه الصفحات عبر شبكة الإنترنت صار في إمكان الناس قراءتها في الوقت نفسه وفي كلّ أنحاء العالم. ولذلك بات من المهمّ تحديد الميزان الذي توزن به المواد الصالحة للنشر والمواد التي تحوّل للتلف. مع العلم أنّ الصحف والمجلاّت والمواقع الإلكترونيّة تعرّف عن نفسها بأنّها فسحة حريّة وتنشر كلّ عمل أدبيّ ما دام يحترم أصول النشر ولا يتعارض مع مبادئ العمل الصحفيّ. ولكنّ أحدًا لا يصدّق هذا التعريف، خصوصًا أولئك الذين كانت لهم تجارب إبداعيّة أو نقديّة رُفضت لا بل حوربت لأنّ أصحابها لا ينتمون إلى عشيرة ثقافيّة معيّنة هي في الواقع أقرب في نظامها الداخليّ وقوانينها وأساليب تصفياتها إلى تركيبة المافيا.
من الطبيعيّ أن يكون في الإبداع مدارس وتيّارات واتّجاهات، ومن الطبيعيّ أن يكون لكلّ صحيفة أو مجلّة خطّها الفكريّ الذي تنشر بتوجيهاته كلّ كلمة تكتب في صفحاتها، أيًّا يكن الموضوع، أمّا أن يصل الأمر إلى سيطرة مجموعة من المبدعين على مختلف الصفحات الثقافيّة في أكثر من صحيفة، فهذا ما قد يدعو إلى التعجّب ويثير التساؤلات. غير أنّ الأمر أبسط من أن يأخذ وقتًا طويلاً للتحليل والفهم. فسادة الصفحات الثقافيّة مرتبطون بميثاق يجعلهم، ولو اختلفوا في أساليبهم وأنواع إبداعهم، متفّقين على عدم السماح بدخول عنصر جديد على تجمّعهم إلاّ إذا كان بوقًا من أبواق فرقتهم، عدا عن أنّهم يتبادلون التحيّات في مقالاتهم، فيعرّف كلّ واحد منهم في صحيفته بعمل الآخر من الصحيفة الأخرى، فيردّ الآخر التحيّة بأجمل منها، ويكتب مقالة مسهبة يعلن فيها عن الفتح الثقافيّ الجديد. ولذلك ما أن يصدر كتاب لأحد هؤلاء السادة حتّى تتلاحق المقالات والدراسات في الصحف والمجلاّت والمواقع الإلكترونيّة المنضوية تحت لواء حلفهم المقدّس وكلّها في باب الإعجاب والتقدير والاحتفال، كأنّ الجميع يعزف تحت إمرة مايسترو واحد.
هذا جانب من موضوع الصفحات الثقافيّة، الجانب الآخر هو اختيار القضايا والملّفات، فمن المعروف أنّ الحريّة هي العنوان العريض الذي توضع تحته كلّ المواضيع، ومن أجل احترامها تقوم قيامة الأدباء والشعراء والنقّاد ولو كانوا هم أنفسهم لا يحترمون إلاّ من وضع حريّته في قفص مزاجهم. ولكن ما يثير الريبة ويدفع المتابعين إلى التحفّظ عن الانسياق خلف ثورة الحريّة هذه أنّ هذه الأقلام لا تُستنفر إلاّ من أجل قضايا محدّدة يدور أكثرها حول محور الجسد. وفي هذا الإطار، نضع حملات الصفحات الثقافيّة حاليًّا للدفاع عن أفلام جريئة يمنع عرضها أو مجلاّت حديثة تحارب أو برامج حواريّة تلغى في آخر دقيقة. فلأؤكّد أوّلاً أنّني ضدّ الرقابة مهما كان نوعها، غير أنّني لم أستطع أن أفهم حتّى الآن لماذا لا تشنّ الصحافة الثقافيّة الحملات الغاضبة، وبالالتزام نفسه، على أفلام العنف أو على موسيقى الصخب أو على حفلات المجون والمخدّرات التي تختبئ تحت قناع الفنّ أو على المسلسلات السخيفة أو على الفساد في الإدارات والمؤسّسات أو على برامج التوك شو السياسيّ الملأى بالشتائم المقذعة أو على الانفعال الدينيّ الذي يذكّر بعهود غابرة. ولماذا تكتب مئة مقالة في الدفاع عن فيلم جريء ولا تنشر مقالة واحدة تجرّأت وطالبت بحقّ كاتبها في الوجود، ويوقّع مئات المثقّفين عريضة تطالب بإطلاق سراح مفكّرين ولا يجد مفكّر طليق زاوية في صحيفة ليعبّر فيها عن رأي لا يعجب المثقّفين موقّعي العريضة، وتنشر عشرات الافتتاحيّات لكبار المبدعين داعية إلى وقف الرقابة عن الإبداع أيًّا يكن نوعه ثمّ يراقب هؤلاء الكبار إبداع الناشئين ويرمونه في سلاّت المهملات.
ما أثار رغبتي في الحديث عن هذا الموضوع، الذي قيل عنه الكثير من دون أيّ تغيير يذكر، مقالة للأديب والإعلاميّ هاني نقشبندي في مجلّة إيلاف الإلكترونيّة في تعلّيقه على معرض الرياض للكتب الذي منعت فيه كتب سعوديّة كثيرة. ولكنّنا قد نجد لدولة كالسعودية، لها خصوصيّتها الدينيّة والاجتماعيّة، عذرًا في ما ترتأيه وتختاره لسياستها الثقافيّة، أوافقَ ذلك نظرتنا إلى التعامل مع الإبداع أم لا، غير أنّنا نعجز عن إيجاد أيّ عذر للأدباء والشعراء حين يمارسون هم أنفسهم سلطة المنع هذه في حقّ من يعارض رأيهم أو ينتقد فكرهم أو يكتب بأسلوب لا يشبه أساليبهم أو يفكّر بطريقة لا تعجبهم. ربّما صار طبيعيًّا ومتوقّعًا أن تخاف الحكومات في بلادنا من الثقافة والتنوّع والنقد والفكر ولكن هل من طبيعة الثقافة أن تخاف من نفسها وإنتاجاتها؟
لعلّ السؤال الجوهريّ في هذه المسألة هو تعريف الصفحة الثقافيّة، وتحديد دورها ما دامت ضمن جريدة أو مجلّة وليست في مطبوعة متخصّصة لقرّاء متخصّصين. فقرّاء الصحف والمجلاّت يتوزّعون على مختلف الأعمار والاتجاهات والمستويات والأجناس، ومع انتشار هذه الصفحات عبر شبكة الإنترنت صار في إمكان الناس قراءتها في الوقت نفسه وفي كلّ أنحاء العالم. ولذلك بات من المهمّ تحديد الميزان الذي توزن به المواد الصالحة للنشر والمواد التي تحوّل للتلف. مع العلم أنّ الصحف والمجلاّت والمواقع الإلكترونيّة تعرّف عن نفسها بأنّها فسحة حريّة وتنشر كلّ عمل أدبيّ ما دام يحترم أصول النشر ولا يتعارض مع مبادئ العمل الصحفيّ. ولكنّ أحدًا لا يصدّق هذا التعريف، خصوصًا أولئك الذين كانت لهم تجارب إبداعيّة أو نقديّة رُفضت لا بل حوربت لأنّ أصحابها لا ينتمون إلى عشيرة ثقافيّة معيّنة هي في الواقع أقرب في نظامها الداخليّ وقوانينها وأساليب تصفياتها إلى تركيبة المافيا.
من الطبيعيّ أن يكون في الإبداع مدارس وتيّارات واتّجاهات، ومن الطبيعيّ أن يكون لكلّ صحيفة أو مجلّة خطّها الفكريّ الذي تنشر بتوجيهاته كلّ كلمة تكتب في صفحاتها، أيًّا يكن الموضوع، أمّا أن يصل الأمر إلى سيطرة مجموعة من المبدعين على مختلف الصفحات الثقافيّة في أكثر من صحيفة، فهذا ما قد يدعو إلى التعجّب ويثير التساؤلات. غير أنّ الأمر أبسط من أن يأخذ وقتًا طويلاً للتحليل والفهم. فسادة الصفحات الثقافيّة مرتبطون بميثاق يجعلهم، ولو اختلفوا في أساليبهم وأنواع إبداعهم، متفّقين على عدم السماح بدخول عنصر جديد على تجمّعهم إلاّ إذا كان بوقًا من أبواق فرقتهم، عدا عن أنّهم يتبادلون التحيّات في مقالاتهم، فيعرّف كلّ واحد منهم في صحيفته بعمل الآخر من الصحيفة الأخرى، فيردّ الآخر التحيّة بأجمل منها، ويكتب مقالة مسهبة يعلن فيها عن الفتح الثقافيّ الجديد. ولذلك ما أن يصدر كتاب لأحد هؤلاء السادة حتّى تتلاحق المقالات والدراسات في الصحف والمجلاّت والمواقع الإلكترونيّة المنضوية تحت لواء حلفهم المقدّس وكلّها في باب الإعجاب والتقدير والاحتفال، كأنّ الجميع يعزف تحت إمرة مايسترو واحد.
هذا جانب من موضوع الصفحات الثقافيّة، الجانب الآخر هو اختيار القضايا والملّفات، فمن المعروف أنّ الحريّة هي العنوان العريض الذي توضع تحته كلّ المواضيع، ومن أجل احترامها تقوم قيامة الأدباء والشعراء والنقّاد ولو كانوا هم أنفسهم لا يحترمون إلاّ من وضع حريّته في قفص مزاجهم. ولكن ما يثير الريبة ويدفع المتابعين إلى التحفّظ عن الانسياق خلف ثورة الحريّة هذه أنّ هذه الأقلام لا تُستنفر إلاّ من أجل قضايا محدّدة يدور أكثرها حول محور الجسد. وفي هذا الإطار، نضع حملات الصفحات الثقافيّة حاليًّا للدفاع عن أفلام جريئة يمنع عرضها أو مجلاّت حديثة تحارب أو برامج حواريّة تلغى في آخر دقيقة. فلأؤكّد أوّلاً أنّني ضدّ الرقابة مهما كان نوعها، غير أنّني لم أستطع أن أفهم حتّى الآن لماذا لا تشنّ الصحافة الثقافيّة الحملات الغاضبة، وبالالتزام نفسه، على أفلام العنف أو على موسيقى الصخب أو على حفلات المجون والمخدّرات التي تختبئ تحت قناع الفنّ أو على المسلسلات السخيفة أو على الفساد في الإدارات والمؤسّسات أو على برامج التوك شو السياسيّ الملأى بالشتائم المقذعة أو على الانفعال الدينيّ الذي يذكّر بعهود غابرة. ولماذا تكتب مئة مقالة في الدفاع عن فيلم جريء ولا تنشر مقالة واحدة تجرّأت وطالبت بحقّ كاتبها في الوجود، ويوقّع مئات المثقّفين عريضة تطالب بإطلاق سراح مفكّرين ولا يجد مفكّر طليق زاوية في صحيفة ليعبّر فيها عن رأي لا يعجب المثقّفين موقّعي العريضة، وتنشر عشرات الافتتاحيّات لكبار المبدعين داعية إلى وقف الرقابة عن الإبداع أيًّا يكن نوعه ثمّ يراقب هؤلاء الكبار إبداع الناشئين ويرمونه في سلاّت المهملات.
ما أثار رغبتي في الحديث عن هذا الموضوع، الذي قيل عنه الكثير من دون أيّ تغيير يذكر، مقالة للأديب والإعلاميّ هاني نقشبندي في مجلّة إيلاف الإلكترونيّة في تعلّيقه على معرض الرياض للكتب الذي منعت فيه كتب سعوديّة كثيرة. ولكنّنا قد نجد لدولة كالسعودية، لها خصوصيّتها الدينيّة والاجتماعيّة، عذرًا في ما ترتأيه وتختاره لسياستها الثقافيّة، أوافقَ ذلك نظرتنا إلى التعامل مع الإبداع أم لا، غير أنّنا نعجز عن إيجاد أيّ عذر للأدباء والشعراء حين يمارسون هم أنفسهم سلطة المنع هذه في حقّ من يعارض رأيهم أو ينتقد فكرهم أو يكتب بأسلوب لا يشبه أساليبهم أو يفكّر بطريقة لا تعجبهم. ربّما صار طبيعيًّا ومتوقّعًا أن تخاف الحكومات في بلادنا من الثقافة والتنوّع والنقد والفكر ولكن هل من طبيعة الثقافة أن تخاف من نفسها وإنتاجاتها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق