يوسف بك كرم (1832- 1889) محاطًا برجاله
(نقلًا عن صفحة الفايسبوك للروائيّ جبّور الدويهي)
جماهير الشوارع اللبنانيّة مخلصة للطرقات لا للمبادئ، مؤمنة بالسير لا بالهدف، حريصة على الصراخ لا على الكلمات. صحيح أنّ للشارع في كلّ مكان إيقاعه ولغته وناسه، ولكنّ الذين ينزلون إلى الشوارع عندنا أمينون على تراث يعلن وجودهم أكثر ممّا ينبئ بقضاياهم، ولذلك نلاحظ أنّ الوجوه نفسها هي التي تنزل إلى الطرقات في كلّ المناسبات. لو عدنا قليلًا إلى أعوام خلت لطالعتنا صورة الحشود التي ذهبت إلى جونيه لحضور الحفل الغنائيّ الذي أحيته المطربة المكسيكيّة التي لا أعرف اسمها الحقيقيّ، ولكنّي أعرف أنّ جيلًا من الفتيات اليوم يحمل اسم "راكيل" تيّمنًا بالاسم الذي حملته بطلة مسلسل "أنت أو لا أحد" فاتحة عصر الدبلج في لبنان. تدافع المعجبون يومذاك لتحيّة نجمتهم الآتية من خلف البحار، والتي لا تفهم لغتهم ولا يفهمون لغتها. ويومذاك وقع انفجار ووقع ضحايا، وعادت "راكيل" إلى قواعدها سالمة. منذ ذلك اللقاء الجماهيريّ إبّان الحرب، وصورة الحشود تبدو لي واحدة في كلّ مكان وزمان، وأيًّا تكن المناسبة. وصار متوقّعًا أن يتحرّك هؤلاء إذا وقعت حادثة ما، وأن يتجمّع أولئك إن تعرّض شيء معيّن للتغيير. وهكذا بقيت وجوه النازلين إلى ساحات الهتافات هي نفسها، ومع الوقت أخذ أصحابها يتناسلون ويتكاثرون، ثمّ بدأوا يصطحبون أولادهم، ويورثونهم اليافطات والشعارات والأغاني مع تعديلات بسيطة يفرضها الزمن! قد يكون هذا التصوير مبالغًا في قسوته، ولكن كيف نفسّر تواجد مجموعة كبيرة من الناس رقصت في الاحتفالات التي أقيمت أمام قصر بعبدا زمن الجنرال عون، ثمّ اصطفّت قبل سواها على الطرقات لتحيّة فريق الحكمة عندما فاز في مباريات كرة السلّة، ثمّ انتقلت لاستقبال البابا يوحنّا بولس الثاني، وتصدّرت بعد ذلك الصفوف الأماميّة لدى استقبال ذخائر القدّيسة تريز أينما حلّت. ولا تعني هذه الصورة ذات اللون الطائفيّ الواحد إلى حدّ ما، أن ليس هناك من يتجاوز الاعتبار الدينيّ أو الحزبيّ، ويشارك في هذه المظاهر لمجرّد الرغبة في التواجد في الشوارع. سواء لديهم إن كان ذلك في حفلة فيروز في ساحة البرج، أو في تظاهرة "الحلم العربيّ"، أو في التجمّع أمام السفارة الأميركيّة، أو لدى زيارة "بوّابة فاطمة"، أو الاحتجاج على إقفال محطّة "إم تي في"... وكأنّ الناس يريدون أن يتجمّعوا، أن يتعارفوا، أن يلتقوا، أن يضربوا أحدًا أو أن يضربهم أحد، أن تطالهم الكاميرا، أن يصرخوا بأيّ كلام، أن يصدّقوا أنّهم موجودون... اليوم، لا أحد في الشوارع، (لن ننسى أفرادًا عبّروا عن مواقفهم والتزاماتهم الحقيقيّة، ولكن كم نسبتهم؟) لا أحد يريد النزول إلى الشوارع، لا الذين استقبلوا البابا يوحنّا بولس الثاني الرافض اليوم الحرب على العراق، ولا الذين لحقوا رفات القدّيسة تريز التي دعت إلى الحبّ لا إلى الحرب، ولا الذين ذهبوا إلى بوّابة فاطمة، وأفرغوا الأرض اللبنانيّة من الحجارة، لكثرة ما رشقوا بها الجنود الإسرائيليّين، ولا الذين هتفوا للحلم العربيّ الذي يبدو الآن كابوسًا بكلّ معنى الكلمة، إذ تبيّن أنْ كلّما اجتمع عربيّان كان الشيطان ثالثهما. اليوم، لا أحد في الشارع. التلاميذ يراهنون على الحرب، لعلّ التعطيل يطال المدارس، والتجّار يتناقلون الأخبار بأنّ العرب سيهربون إلى لبنان وستزدهر الحركة، والساهرون في المطاعم والفنادق يتسامرون متسائلين إن كانت توقّعات "ميشال حايك" ستصحّ أو لا وماذا سيكون مستقبله إن خابت "رؤاه". اليوم، لا أحد يريد النزول إلى الشارع. والجماهير الغفيرة – أو الغفورة بحسب فيلمون وهبي والرحابنة – تؤثّر الاجتماع لتحليل ما قالته المطربة الراقصة العارضة وربّما الشاعرة لاحقًا، التي فوجىء الناس بأنّها "مش هيّنة، بتعرف تحكي". *** * النهار - الاثنين 24 آذار 2003 |
هناك تعليق واحد:
مقال يجمع في ثنياه تأملات سيكولوجية و سوسيولوجية للحشود،هذه الظاهرة التي حولت العرب الى ما يشبه قطيعا نافرا يهرول في كل اتجاهات الطيش و الذعر و الصراخ بلا معنى و لا كلمات، بلا بوصلة و لا عناوين لاتجاهات.يخرجون في الوقت الضائع و لا يخرجون حيث يكون الوقت مناسبا.ربما كما قلت سيدتي أنهم يخرجون ليكتشفوا وجوههم الضائعة بينهم،و ذواتهم الهاربة منهم لعلهم يحاصرونها حشودا مثل ثور هائج.
دام لك التألق و النباهة يا ماري
محمد ياسر سعد
إرسال تعليق