السبت، 13 أغسطس 2016

من يوميّات الفيسبوك (13 آب 2016)


2012

شيطان الكلمات وقدّيسها (من كتابي رسائل العبور)
***
الكتابة عنك لا تشبه العلاقة بك.
الكتابة عنك شأن آخر لا يشبه إلّا نفسه ولكنّه يختلف عن نفسه كلّ مرّة، كأنّ ثمّة نساء من مختلف الألوان والجنسيّات والعصور والأعمار يكتبن في لحظة واحدة عن رجال من مختلف الألوان والجنسيّات والعصور والأعمار، أو كأنّ امرأة لم تولد بعد تكتب بأحرف لم تكتشف بعد عن رجل لم تنجبه امرأة بعد.
في الكتابة عنك صلاة وبكاء وفرح وأطفال وعصافير وينابيع وأشجار، وفيها كذلك شياطين وتجارب ودموع وشكوك وصراخ وعتاب وهموم وكوابيس.
وبما أنّي أؤمن بقدرة الصلاة على طرد الشياطين وبقوّة الأحلام على محو الكوابيس، لن أمتنع عن الكتابة ولن أخشى الدخول في تجربة من التجارب السبع الممتعة والمميتة التي أختبر إغراءها وخطرها في كلّ مرّة أكتب عنك.
***
حين أكتب عنك أصاب بالغرور. وإذا كان الغرور في عرف اللغة هو "انخداع المرء بنفسه وإعجابه بها ورضاه عنها وتقديره لمزاياه تقديرًا مفرطًا ولا مبرّر له" فأنا في أكثر اللحظات اقترابًا منك، أي حين تجمعنا جملة واحدة بين فاصلتين، أصبح أكثر الناس عرضة للغرور. وإذا كان البعض يعتقد أنّك أنت من عليه الخوف من هذه التجربة لأنّك محور كتابتي ومنطلقها وهدفها، فالواقع يختلف تمامًا لأنّي حين أكتب عنك أطمئنّ إلى أنّي وجدت المحور ولو كان وهميًّا والمنطلق ولو كان غير ثابت والهدف ولو كان غير منظور.
والكتابة عنك تخيفني بقدر ما تغريني لأنّها تجعلني أنخدع بقدراتي عندما أحاول الإمساك بك وإحاطتك وسبر أغوارك، وأعجب بذاتي لأنّي أنفجر كلمات جميلة تحكي عنك، وأرضى عن نفسي لأنّها رأت فيك ما لا يراه الآخرون، وأقدّر مزاياي لأنّني جعلتك تكشف نفسك أمامي.
ولولاك لخرج كلّ ذلك عن حدّه وتحوّل غرورًا مخيفًا مؤذيًا، وبسببك تحوّل ثقة بالنفس هادئة رصينة. وهذا ما لا يُتاح لكثر.
***

وحين أكتب عنك أتعرّض لمتعة الكبرياء فأعتبر نفسي أفضل من غيري لا أرى لأحد عليّ حقًّا، وأؤمن بأنّ ما أشعر به تجاهك لا اسم له إذ لا مثيل له، وبأنّ ما أكتبه عنك ليس له ما يشبهه ولا يصحّ إلّا عنك. وكيف لا تروادني مشاعر الكبرياء وأنا أراك بين يديّ عجينة طيّعة لا حول لها ولا قوّة؟
لكنّي أكتشف عند الكتابة أنّك لك حقًّا عليّ وأنّك حالة استثنائيّة فرضت نفسها على كلماتي، فيتحوّل ما كاد يصبح كبرياء إلى فرح داخليّ عميق وسكينة صافية وأرتاح إلى فكرةِ أنّي لست امرأة وحيدة فوق قمّة كبريائها بل امرأة مطمئنّة إلى وجود رجل يعرفها على حقيقتها ويقبلها كما هي. وهذا ما تحلم به كثيرات.
***

وحين أكتب عنك يغريني الكذب ويهمس في أذني بصوته العذب: لا بأس إن أخفيت عنه أمورًا وزيّنت له سواها. ولا بأس إن ألبستِ غيرتَك عليه لباسَ الاهتمام بمصالحه، ورغبتَك في الاستئثار به ثوبَ الحماية، وحاجتَك إليه رداءَ التضحية من أجله.
ولكن لأنّك أنت من أنت لم أرضخ دائمًا وقاومت كثيرًا وحذّرتك قائلة: أثق بك إلى درجة أنّي أخبرك كم أكذب على سواك. وهذا ما لا تفعله المرأة إلّا إذا كنت أنت الرجل.
***

أمّا الاشتهاء فأشدّ الرغبات إغراء: اشتهاء كلمات الآخرين والرغبة في أكون كاتبتها لتكون أنت محتواها والموحي بها، واشتهاء الجمال والذكاء والمال والصحّة لتكون أنت المستمتع بها، واشتهاء الحبّ والحنان والسعادة لتجييرها إليك.
ولولاك لكانت هذه الشهوات العنيفة مدمّرةً قاتلة، غير أنّها بسحر سحرك تحوّلت طاقة خلّاقة كوّنت ما يشتهيه الآخرون ويرغبون فيه. وعلى هذا يحسدني كثر.
***

وتكاد الكتابة عنك تخضعني لتجربة الاكتفاء بك والتعالي على كلّ ما يخرج على عالمك، وبالتالي تجربة قتل الآخرين ومحوهم من الوجود. فعندما ترتسم الكلمات في رأسي وأراها ممتدّة على اسطر لا نهاية لها أعرف أنّ كلّ وجود خارج عن وجودك لم يبق موجودًا. حتّى عندما يبدو أنّ الكلام ليس عنك وليس لك يكون لك وعنك، وحتّى عندما يظنّ الآخرون أنّ الكلام عنهم ولهم يكون لك وعنك. ولهذا بدا الاكتفاء بك في أكثر الأحيان تقوقعًا على الذات ورفضًا لكلّ ما لا يعجبها أي لكلّ ما ليس أنت. بل تملّكتني نزعة اعتبار الآخرين عناصر مخرّبة تهدّد اطمئنان علاقتنا وتعرّض أمانها وسلامها إلى خطر شديد، أو مشاهد مدنّسة تسيء إلى حرمة العلاقة وتشوّه قدسيّتها وسموّها. ثمّ أخذت أنظر إليهم على أنّهم مواضيع جذّابة نتناولها في أحاديثنا ونتسلّى بها.
بيد أنّك تحبّ الآخرين، كلّ هؤلاء الآخرين. ومن أجلك أبقيت عليهم، وسمحت لهم بالإقامة بيننا. وصرت أتعلّم شيئًا فشيئًا كيف أنظر إليهم بعينيك وكيف أنظر إليك بأعينهم، وهذا ما جعلني أعيد اكتشافك مرّة بعد مرّة بعد مرّة. وهكذا عرفت كيف يبهرك بعض الأشخاص من النظرة الأولى قبل أن تكتشف بعد قليل أنّهم ليسوا أهلاً لإعجابك، وكيف تسمح، عن سابق تصوّر وتصميم، لبعض الناس باستغلال عاطفتك، وكيف تمتنع عن إظهار ذكائك رغبة في عدم تنبيه الآخرين إلى غبائهم، وكيف تكتم شعورًا يريد أن يصرخ إعجابًا أو حبًّا أو احتجاجًا أو غضبًا. وهذا ما لم يتح لكثر مراقبته.
***
أمّا التجربة الخطيرة التي تضعني الكتابة عنك في مواجهتها فهي السيطرة. فعندما أكتب عنك لا يبقى شيء على حاله، ولا يبقى الجمال جمالًا ولا القبح قبحًا، ولا يبقى أيّ واحد منّا على ما كانه قبل الشروع في الكتابة، لا بل أن ترغب الفكرة في التجسّد، بل قبل أن تبدأ الفكرة في التفكير في التجسّد. ففي هذه اللحظة الأقصر من اللحظة أشعر بقدرة هائلة على التحكّم فيّ وفيك وفينا وفي كلّ ما جرى بيننا وفي كلّ ما لم يجرِ وفي كلّ ما لم يخطر على بال أحدنا. وتتضاعف هذه السيطرة ككرة الثلج وتتغذّى من نفسها وتصمّ أذنيها عمّا خارجها وتغمض عينيها إلّا على ما في داخلها وتقفل حواسّها أمام ما يمكن أن يقتحمها أو يتسلّل إليها.
***
إنّما حين يزداد اقتناعي بأنّي ممسكة بزمام الأمور وبأنّي أكتب ما لا قدرة لك على نفيه أو تكذيبه أو تصحيحه أو التعليق عليه أو الاستفهام عنه، وفي اللحظة التي أتأكّد فيها من أنّي ربّة هذا المعبد الذي هو الكتابة عنك أكتشف، عند فاصلة ما، عند نقطة ما، أنّي لست إلّا كاهنة صغيرة منذورة لخدمةٍ لم تخترها وستُقدَّم قربانًا على مذبحها.
أليس من العبث أن أحاول مقاومة التجارب وأنا منغمسة في الخطيئة التي أظنّ أحيانًا أنّها أنت؟ وإذا كنتَ أنت خطيئتي الأصليّة فأيّ خطأ سأرتكبه بعد يستحقّ العتاب أو العقاب؟ وكيف يمكن أن تكون في لحظتين متواليتين الشيطان المتلاعب بكلماتي والقدّيس الذي يرشّ النقاط المباركة فوق حروفها؟ وكيف يمكن أن تكون التجربةَ والمجرِّبَ والمنقذ في موقف واحد؟
هي الكتابة التي تجعلك كلّ ذلك وأكثر! 

 ***
اشتقت إلى الصمت التام
 ***
أنا طفلة هذا العالم
فلا تدع أقوالي الحكيمة تخدعك
 **************
2014

الأمر لك: عرق أم نبيذ أم ويسكي؟؟ 
أرأيت كم أنا مطيعة وكيف يمكنني أن أكون بطعم مزاجك؟
***


منذ زمن بعيد، تعلّمت أنّ الناس يهربون من وجعنا... مذ غاب والدي عن الوعي وهو يرى الطبيب يسحب، قبل أن يسري مفعول البنج الموضعيّ، قضبان الحديد من رجلي... ومذ كانت أمّي تهرب خارج الغرفة وهي تبكي وتقول: ما عاد إلي قلب إسمع صوتها عم تصرخ من الوجع...
منذ ذلك الحين وأنا أعرف أنّ الناس يهربون من وجع الآخر، لأنّهم أكثر ضعفًا من مساعدتك على حمله وتحمّله. لذلك كان الامتحان الذي جعلت الجميع يخضعون له هو أن أواجهم منذ اللقاء الأوّل بالحديث عن ألم ما، أيّ ألم، أيّ وجع، أيّة معاناة، أيّة مشكلة... وكانت النتيجة دائمًا واحدة...
في مسرحيّة جبال الصوان، يقول الأخوان رحباني ما معناه: حامل الحزن بيهربو منّو الناس، بيخافو يعديهن... 
حامل الحزن وحيد، على درب آلام طويلة، مهما سخر وضحك وهزئ وشاكس. حزنه يصرخ في طرائفه ونكاته، ووجعه يستغيث بين ضحكة وضحكة، وجراح روحه تشقّ صحراء وحدته ليعانق شمسًا ولو حارقة... لكنّ الناس، أقرب الناس، يعجزون عن تحمّل آلام روحك، لأنّهم عاجزون عن سبر أغوار نفسك...اسألوا عائلة روبن وليامز! 
علاقتي مع الفيسبوك وتويتر والمدوّنة أثبتت لي ذلك بطرق أخرى مغايرة... الناس يقرأون ما تكتب لكنّهم لا يرون عينيك المتورّمتين من البكاء، يرونك تضع هههههههههه، ولا يعرفون أنّ إصبعك ربّما ضغط على الحرف وتشنّج من الغضب، تنقل لهم خبر فجيعة فيضعون لك "لايك"... معهم حقّ، لا ألومهم. لا أحد قادر على احتمال ألم الآخرين. لكلّ صليبه وألمه ومعاناته... 
الشاعرة الصديقة ليلى عيد تعاني من آثار الجلطة الدماغيّة، وهي في مركز إعادة التأهيل. لم أزرها وقد لا أفعل، رائحة المستشفيات تعيدني إلى البياض الذي يحاصر المريض... أهرب من وجعي لا من وجعها، من ذاكرتي لا من واقعها، من رؤية عجزي لا عجزها... فأعتب على ذاتي الكبيرة وأهدّئ من روع ذاتي الصغيرة، من خوف الطفلة التي كنتها وأقول لها لا بأس، لا تخافي من الوجع بعد الآن... 
حاولت الليلة أن أحكي لصديق عن هذه الأمور، لكنّ الصديق له ألمه، فكيف أسمح لنفسي بمضاعفة وجعه، فأهرب إلى المزاح، لأرى أمامي ليلى عيد تبكي وحيدة في غرفتها بعدما انفكّت من حولها حلقة العُوّاد والزائرين، فكيف أضع "لايك" لحالتها؟؟ أودّع الصديق الحبيب البعيد وأتركه لألمه، وأعود لألمي، لعلّ ليلى تغفو قليلًا...
ليل المستشفيات لا يشبه أيّ ليل آخر في أيّ مكان... مرّات كثيرة، أزور الطفلة التي كُنتها لأجد وسادتها مبلّلة بالأسئلة... مأساة المريض أنّه لا يعرف الأجوبة: لماذا أنا؟ لماذا الآن؟ إلى متى؟ أين الله؟ أين الله؟
بين ليلى التي تعبر الآن من المرض إلى التعافي وصديقي الذي يعبر الآن إلى الشطر الأخير من القصيدة، أعبر أنا في أروقة المستشفيات فأرى الألم ساهرًا يتنقّل من غرفة إلى غرفة ليقضّ مضاجع المرضى... أخاف أن يراني فأهرب إلى الغيبوبة كما فعل والدي وإلى خارج ذاتي كما فعلت أمّي... وأنا أسأل: أين الله؟ أين الله؟ 

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.