خوان ميرو |
لا مكان إلّا لشخص واحد خلف طاولة المكتب الأنيقة.
لا مكان إلّا لكرسيّ واحد أعلى وأفخم من الكراسي الأخرى.
الجالس خلف طاولة المكتب اختار أن يبقى وحيدًا.
قلقٌ هو. التساؤل مقيم في خلاياه، ويتنزّه الشكّ متباطئًا على دروب أعصابه.
حذِرٌ هو، تجلس الريبة على الكرسيّ المقابل، وتشبك رِجلاً فوق رجل، وتنفث دخان سيكارتها في وجهه، وتضحك من حيرته، ولا تجيب عن أسئلته، ويقيم الخوف بين لون مكتبه والخشب العازل، بين بياض الورقة والكلمة المغتصبة.
يجلس الجالس خلف طاولة مكتبه، يجيب على الهاتف/الهواتف، يستقبل ويودّع، يضحك ويعبس، يلامس أزرار الأجهزة، يفلفش الأوراق ويقلبها، ثمّ يكتشف فجأة أنّه يستمد قوّته من المكان الذي لا يتّسع إلاّ لكرسيّ واحد، ويحاول أن يتصوّر كيف سيكون الوضع لو اضطرّ إلى الجلوس بلا طاولة تستر عري وجوده وهشاشة مروره.
خوان ميرو |
يضحك الناس له، يوافقونه الرأي، يثنون على قدراته ومواهبه ونفاذ بصيرته، يدعونه إلى الغداء والعشاء والسهر، يسرّون له بقدرتهم على القيام بأصعب المهمّات، يعدونه بالإخلاص وينذرون له الطاعة والتجرّد والوفاء، ومع كلّ هديّة يقدّمونها في خجل العاجز عن شراء ما يليق بمقام الكرسيّ، يطلقون وعدًا جديدًا بالبقاء على العهد مهما تكن التضحيات والأثمان.
ينظر الجالس على الكرسيّ خلف الطاولة إلى نفسه وإلى الآخرين، يرى الأكبر منه سنًّا وقد تواضعت خبرته ومعارفه وانحنى رأسه إلى درجة الامّحاء، ويراقب الأقدم منه تجربة وهو يشطب من ذاكرته كلَّ ذاكرته ويفتح صفحة جديدة مستعدّة لاستقبال أيّ أمر وتنفيذ أيّ رغبة، ويرنو إلى الأكثر منه علمًا وهو يقفل باب الحديد على كنوز عرف كيف ومتى يجمعها ولم يعرف كيف يفيد منها أو يتصرّف بها. ينظر الجالس خلف الطاولة ويرى، ويكتشف كيف تتلوّن المفردات غنجًا ودلالاً، وتذوب الكلمات رقّة وعذوبة، وكيف تتحوّل الرجولة أنوثة والأنوثة ميوعة، وكيف يصير هو الأجمل والأهضم والأكرم والأذكى...
وحيد وخائف الجالس خلف طاولة المكتب، حيث لا يتّسع المكان إلّا لوجوده. يخشى أن توصله الثقة إلى شِباك الخيانة، ويقوده الحبّ إلى جحيم الغدر، وترمي به الصداقة في أحضان العداوة، فيحوّل الطاولة حاجزًا يبقي الآخرين في الأماكن التي على قياسهم، والأوراق متراسًا يحميه من النظر إلى عيونهم حيث تختبئ النيّات، والكرسيّ ملجأ يحتمي به من اقتحامهم حصن مركزه، والقلم سلاحًا يشهره في وجوههم حين يخشى أن تخونه القدرة على مواصلة اللعبة، والهاتف نفقًا يهرب عبره بعيدًا عن المواجهة.
قريب وبعيد الجالس خلف الطاولة، يقنعك بأنّك موضع ثقته وبئر أسراره، ثمّ يقوده خوفه من الندم إلى الجهة المقابلة، فتراه بعيدًا ونائيًا، يهرب من عينيك وصوتك، ويقصيك إلى الخطوط الأماميّة من الجبهة لعلّك تلتهي بإثبات شجاعتك أو على الأقلّ بإنقاذ نفسك فتتركه وشأنه.
إنسان وإله الجالس خلف الطاولة، يؤكّد في كلّ مناسبة أنّه من الناس ولهم، وأنّه إنسان مثلهم، يبكي كما يبكون ويجوع كما يجوعون، وينعس كما ينعسون، وعندما تعامله كإنسان مثلك ينتفض ويستعيد ألوهته المعتدى على حرمتها، ويذكّرك، للمرّة الأخيرة، بأنّه يملك الطاولة والكرسيّ، وإيّاك أن تنسى ذلك.
هنري دو تولوز لوتريك (1864- 1901) |
المكان خلف الطاولة لا يسمح بالاقتراب من الجالس هناك، ولا يمكن بالتأكيد وضع كرسيّ آخر إلى جانبه. المكان هناك بارد لولا القلق وفارغ إلّا من الفراغ، وكلّ الذين سعوا إليه ظنّوا أنّهم سيملأونه حرارة وغنى، ولكنّهم تخشّبوا هناك وتحوّلوا مومياءات لا تصلح إلاّ دروسًا للتاريخ، ولا تثير غير الفضول العلميّ، ولا تدعو إلاّ إلى التأمّل في مصائر البشر. ففي القلق الذي يلفّ لياليهم كالكفن يختنق الصوت الذي يدعوهم إلى الحياة، وفي التملّق الذي يرافق تفاصيل نهاراتهم تتساوى الأصوات والابتسامات وتتشابه.
*صحيفة النهار - الأربعاء 13 شباط 2002
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق