Sabrina Biancuzzi
من كتابي : الموارنة مرّوا من هنا (دار مختارات)
1- عاد بطرس تعبًا من جولاته المكوكيّة الأسبوعيّة على بيوت نوّاب المنطقة، وجلس في فيء العريشة ومدّ رجليه على حافّة من الباطون تسند حوض الزهور الممتلئ بشتلات الحبق والمردكوش، ثمّ نادى بأعلى صوته: بو جبرايل، تعا ت نشرب فنجان قهوة وخبّرك أيش صار معي اليوم. فردّ بو جبرايل وهو يقف على أعلى "السيبة" الرباعيّة القوائم: متل منّك شايف، عم بطرُش يا بطرس. بعدان، بعدان. فما كان من بطرس إلاّ أن أنزل رجليه اللتين تؤلمانه من كثرة الوقوف والمشي وشدّ ظهره المتشنّج من كثرة الانحناء، وعبر الدرب الترابيّة وتوجّه نحو بيت بو جبرايل العتيق والمواجه لبيته ووقف عند أسفل السلّم وقال للرجل الذي علم بأنّ ثمّة ما يجب أن يقال "الآن الآن وليس غدًا"، ثمّ نطق بالكلام الجوهريّ: يا بو جبرايل، بسلامة فهمك، فرشاية وحدة بالمكان المناسب تغنيك عن كلّ هالطرش. وفهمك كفاية. إسمع منّي ولو لمرّة واحدة بتعيش مرتاح كلّ عمرك. فردّ بو جبرايل في حكمة: هالطرش يا بطرس أنظف من هيداك الطرش، وفهمك كفاية.
*****
2- بعدما ضاقت بها سبل الحياة والعمل وباعت كلّ ثمين تملكه (ما عدا الكتب التي لم يشترها أحد)، قرّرت مريم بنت بو عزيز أن تجد الطرق اللائقة لتأمين آخرة صالحة، وبدأت تبحث عن فكرة ذكيّة تلائم السوق وتعوّض عليها خسارة العمر في وظائف لم تضمن المستقبل وقرّرت أن تقبر الفقر قبل أن يقبرها. فكّرت في أن تتاجر بالأدوية التي كانت تستعملها جدّتها (نعنع لوجع البطن، بقدونس لتسهيل البول، زهر أكي دنيا للسعال، حشيشة الزلال، إكليل الجبل للسكّري...) ثمّ اكتشفت أنّ أطباء الطبّ البديل لم يتركوا شيئًا أخضر إلاّ وأخذوه، ثمّ إنّ الدولة بدأت مؤخّرًا في تشديد الرقابة على موجة جزّ الأخضر واليابس، ومريم لا تملك شهادة في الطبّ تسمح لها بالوقوف ضدّ الدولة ولا تعرف أحدًا في وسائل الإعلام ليساعدها على تسويق أدويتها، فصرفت النظر عن الفكرة ووضعت على النار إبريق اليانسون لعلّه يعينها على مزيد من الهدوء والتفكير. ثمّ خطر على بالها أن تنظم كلمات للأغاني. فالأمر بالنسبة إليها أسهل من شرب المياه، فجدّها ووالدها كانا شاعري زجل معروفين، وأمّها كانت تغنّي لها كي تنام، وهي تحبّ الكتابة وتستطيع أن تؤلّف كلمات جميلة نابعة من القلب، ولكنّ ذلك أيضًا يتطلّب علاقات عامّة وخاصّة لا تعرف مريم عنها شيئًا. ثمّ أنّها عندما أخذت الورقة والقلم وبدأت في كتابة أولى أغنياتها، ارتفع صوت أولاد الجيران وهم يرافقون بأصواتهم كلمات أغنية تصدح من التلفزيون: بحبّك يا حمار. فدمعت عينا مريم من سخرية الموقف وقالت لنفسها: لقد أحببت الكثيرين ولم أكتب لهم أغنية، وها قد أتى من سبقني وسرق الكلمات من فمي. من يريد شعرًا في زمن الشعير؟ وعادت الحيرة من جديد: ماذا ستعمل مريم لتحصل على المال وهي متقدّمة في العمر ومرهقة وتحتاج إلى من يهتمّ بها ويساعدها. وفجأة، وكما يحصل في المسلسلات التي لا يصدّق أحداثها أحد، قرّرت مريم بنت بو عزيز من بلدة "ريحانة بيت العابد" أن تبيع كليتها. صحيح أنّ الأمر غير قانونيّ بحسب معلوماتها البسيطة، ولكنها لن تعرض "بضاعتها" للبيع، بل ستعطيها مقابل حاجتها من الطعام وما تفرضه العمليّة من أدوية، والأغنياء يستطيعون ذلك في سهولة. وهكذا ستعامل مريم أحسن معاملة على اعتبار أنّها تقدّم جزءًا منها في سبيل عمل إنسانيّ. أليس هذا أكثر احترامًا لنفسها من الخدمات التي يقدّمها الأصدقاء ليريحوا ضمائرهم ويربحوا مقعدًا في جنّة "بلا ناس ما بتنداس".
بعدما قدّمت مريم كليتها في مقابل كميّات هائلة من المعلّبات وأكياس الحبوب والأدوية، انهالت عليها الطلبات: ذاك يريد عينًا فقبلت لعلّها ترى أقلّ قدر من بشاعة هذا العالم، وتلك تريد رئة فقبلت لعلّها تتنشّق كميّة أقلّ من الهواء الملوّث. الطحال؟ لم لا؟ تأجير الرحم؟ لم لا؟ الجِلد للمحروقين؟ الشَعر للحلاّقين؟ الدم؟ ألا تريدون رِجلاً؟ يدًا؟ قلبًا؟ عقلاً؟...خدّروني ودعوني أنام وخذوا ما تريدون.
بعد ذلك عاشت مريم خفيفة كورقة شجرة وحرّة كقدّيسة.
*****
3- أيّها المسيح! احمل صليبك واتبعني إلى أقرب "منشرة" لنجعل خشبه عِصيًّا تصلح للضرب.
هناك تعليقان (2):
أرجعتها الحاجة إلى أوليّات الشعر فامتهنت الشعوذة..رسبت بنت بعبدا فما
عاد القوم يتلون على موتاهم الشعر. وعاودت بنت ريحان الكرَّة الشاعرة فاكتشفت أن في زمن الشعير لا يكون للشعر سِعْر ـــ والحمار في مزرعة
أورويل هو الذي فهم وضحك في الأخير وعمّر طويلاً.. والطرش يغير الطرش
يا سين عليك يا مريم
يحلو للأطباء في لبنان أن يمازحوا مرضاهم (وأكثر أمراضنا سببها نفسيّ) فينصحونهم بتركيب رأس حمار كي يرتاحوا من الهموم والأوجاع.
هذا ما جعل الحمير تتباهى برؤوسها وتتمسّك بها
إرسال تعليق