Andre Kertesz
هل تسرّعتُ في الكتابة عن زينب حصني كما يفكّر كثير منكم؟
يغيب عن بال بعضكم أنّ القضيّة ليست قضيّة اسم بل قضيّة كرامة إنسان صارت جثّته لعبة سياسيّة/إعلاميّة/ إقليميّة/ دوليّة، بغضّ النظر عن هويّة القاتل وهويّة القتيل.
سأخبركم أمرًا: في فيلم أميركيّ لا أذكر اسمه، تقرّر الإدارة الأميركيّة محاربة الإرهاب، فتفتعل حادثة تفجير ذات طابع إرهابيّ في ثكنة (قاعدة عسكريّة) مهجورة في تركيا. الناس طبعًا لا يعرفون أنّ القاعدة العسكريّة أخليت منذ زمن، ولكن من أين أتت عشرات الجثث في موقع الانفجار؟ هي جثث أشخاص مجهولين أو متخلّى عنهم، جمعت من برّادات المستشفيات وفجّرت، فمات أصحابها مرّتين وأذلوّا مرّتين.
في بعض البلدان الأوروبيّة والأميركيّة، وبعيدًا عن الثورة والإرهاب، تسرق أعضاء الناس وتباع، وتسرق الأجنّة لاختبارات طبيّة، وإلى ما ذلك من تعديّات على كرامات الناس: أحياء وأموات.
هناك جثّة مشوّهة ومقطّعة الأوصال، ,أيّـًا يكن الفاعل، في الأمر جريمة. أيّـًا كان (ت) صاحب (ة) الجثّة، في الأمر إهانة. وإذا كنّا نعترض على تعنيف والد لأبنائه أو زوجته، فهل نقبل بتعذيب امرأة وتقطيع أوصالها وعرضها على شاشات العالم، واستغلال بشاعة الفعل/ المشهد لخدمة مسألة سياسيّة أو تضييع الرأي العام أو إحداث بلبلة؟
أخشى أنّنا بدأنا نعتاد منظر الجثث والدم والخراب، وهذا أسوأ كابوس يمكن أن تواجهه أمّة.
في 28 تشرين الأوّل 2008 نشرت في صحيفة البلاد البحرينيّة هذه المقالة.
كم يشبه يوم أمس يوم غد! وكم يشبه ما قيل عن لبنان منذ ثلاثة أعوام ما يقال اليوم عن سواه!
|
"تعوّدنا" في لبنان على صور الضحايا.
بهتت صورهم على الحيطان وضاعت بين الإعلانات وصور المغنّين والمغنّيات وقريبًا ستختفي تحت صور المرشّحين للانتخابات النيابيّة.
خفتت أصوات الأغنيات التي تشيد بهم بعدما صاروا ذكرى سنويّة ومشروع لجان تكريميّة يرغب أعضاؤها في الظهور والكلام لعلّنا ننسى الذين قتلوا ونتذكّرهم هم.
لم يعد يعنينا من أمر "رفيق الحريري" (كي لا نعود بالذاكرة كثيرًا إلى الوراء) إلّا الإطلالة السنويّة لأرملته "نازك"، وماذا ترتدي وكيف تصف علاقتها بأولاد زوجها وشقيقته، ومن أمر "سمير قصير" إلّا سؤال "جيزيل خوري" إن كانت ستتزوّج مرّة ثالثة، ومن أمر "جبران تويني" إلّا متابعة أخبار ابنته "نايلة" وعلاقتها بزوجة أبيها وأختيها التؤامين والرجال الذين أحبّتهم وأحبّوها، ومن أمر "مي شدياق" إلّا عدد الجوائز التي نالتها، ومن أمر "الياس المرّ" إلّا ممن سيتزوّج بعد طلاقه، وهكذا مع سائر الشهداء، الأموات منهم والأحياء.
ولذلك صار من أسهل الأمور أن يكون كلّ واحد منّا ضحيّة ولن يسأل أحد:
يطرد التلميذ من المدرسة لأنّ أخاه مدمن على المخدّرات، ولا أحد يقول: يا جماعة يجب أن نحمي الصبيّ من تأثير أخيه لا أن نعاقبه على إدمان لا علاقة له به.
تقدّم المعلّمة استقالتها من عملها لأنّ المدير تحرّش بها ولا أحد يقول: يا جماعة، المعلّمة خسرت عملها وراتبها وتعويضها لأنّها رفضت العرض حفاظًا على العِرض، ويجب أن نساندها لا أن نقول لها: كان من الواجب أن تصبري بضع سنوات كي يتمّ نقله.
يموت المريض في المستشفى ولا أحد يقول: يا جماعة، ثمّة خطأ طبيّ واضح ويجب أن نعرف لماذا مات الطفل من عمليّة بسيطة لا أن نتستّر على الأمر.
يقع المبنى على رؤوس ساكنيه ولا أحد يقول: يا جماعة، أين الدولة؟ أين البلديّة؟ أين المهندس؟ أين الناس الذين كانوا يقيمون هنا وانشقّت الأرض وابتلعتهم؟
يموت الضبّاط الذين حاربوا في نهر البارد كلّ يوم مئة مرّة وهم ينظرون إلى عجز أجسامهم عن الحركة، ولا أحد يقول: يا جماعة، حرام أن تذهب تضحياتهم هباء! لقد شلّت أطرافهم لأنّهم وقفوا في وجه الأصوليّة الحاقدة فهل ننسى ذلك لأنّنا اعتدنا على منظر الضحايا؟
الشهداء والمعاقون، الأسرى والمخطوفون، اليتامى والأرامل والثكالى، المغتصبة حقوقهم والمسلوبة أرضهم، كلّهم أجزاء من لوحة جداريّة كبيرة اسمها: الضحيّة.
والجلاّد؟
نحن الضحيّة والجلاّد. نحن الذين اعتادت عيوننا منظر الدمار والأشلاء، واستساغت أسماعنا صوت الأنين، واستطابت أنوفنا رائحة الدم المتخثّر، وعشقت أفواهنا طعم الهزيمة، وارتاحت أيدينا إلى ملمس النار. نحن الذين نفرح حين يقع الانفجار في حيّ غير الحيّ الذي نقيم فيه، ونرتاح حين نعلم أنّ الذين ماتوا لا نعرفهم، ونشكر الله على أنّنا لم نكن هناك ساعة الانفجار، ونهلّل لأنّ القتلى والجرحى كلّهم من غير طائفتنا، أو من غير عائلتنا.
نحن كلّنا شهود زور، نسكت على الخطأ الصغير ونقول: لا يستحقّ الأمر أن نثور فالخطأ صغير. ونسكت على الجريمة الكبيرة ونقول: الأمر أكبر منّا بكثير، فماذا نستطيع أن نفعل؟
سأقول لكم: إذا وقعت ضحيّة جديدة، في أيّ مكان من بلادنا ولأيّ سبب، فليلبس الواحد منكم أجمل ثوب عنده، وليسرّح شعره، وليبتسم ابتسامة عريضة عندما يقف إلى جانب الضحيّة وليطلب من أحد أن يلتقط لهما صورة جميلة، ثمّ يضعها في ألبوم العائلة بعد أن يكتب تحتها: قبل أن ألحق به!
بهتت صورهم على الحيطان وضاعت بين الإعلانات وصور المغنّين والمغنّيات وقريبًا ستختفي تحت صور المرشّحين للانتخابات النيابيّة.
خفتت أصوات الأغنيات التي تشيد بهم بعدما صاروا ذكرى سنويّة ومشروع لجان تكريميّة يرغب أعضاؤها في الظهور والكلام لعلّنا ننسى الذين قتلوا ونتذكّرهم هم.
لم يعد يعنينا من أمر "رفيق الحريري" (كي لا نعود بالذاكرة كثيرًا إلى الوراء) إلّا الإطلالة السنويّة لأرملته "نازك"، وماذا ترتدي وكيف تصف علاقتها بأولاد زوجها وشقيقته، ومن أمر "سمير قصير" إلّا سؤال "جيزيل خوري" إن كانت ستتزوّج مرّة ثالثة، ومن أمر "جبران تويني" إلّا متابعة أخبار ابنته "نايلة" وعلاقتها بزوجة أبيها وأختيها التؤامين والرجال الذين أحبّتهم وأحبّوها، ومن أمر "مي شدياق" إلّا عدد الجوائز التي نالتها، ومن أمر "الياس المرّ" إلّا ممن سيتزوّج بعد طلاقه، وهكذا مع سائر الشهداء، الأموات منهم والأحياء.
ولذلك صار من أسهل الأمور أن يكون كلّ واحد منّا ضحيّة ولن يسأل أحد:
يطرد التلميذ من المدرسة لأنّ أخاه مدمن على المخدّرات، ولا أحد يقول: يا جماعة يجب أن نحمي الصبيّ من تأثير أخيه لا أن نعاقبه على إدمان لا علاقة له به.
تقدّم المعلّمة استقالتها من عملها لأنّ المدير تحرّش بها ولا أحد يقول: يا جماعة، المعلّمة خسرت عملها وراتبها وتعويضها لأنّها رفضت العرض حفاظًا على العِرض، ويجب أن نساندها لا أن نقول لها: كان من الواجب أن تصبري بضع سنوات كي يتمّ نقله.
يموت المريض في المستشفى ولا أحد يقول: يا جماعة، ثمّة خطأ طبيّ واضح ويجب أن نعرف لماذا مات الطفل من عمليّة بسيطة لا أن نتستّر على الأمر.
يقع المبنى على رؤوس ساكنيه ولا أحد يقول: يا جماعة، أين الدولة؟ أين البلديّة؟ أين المهندس؟ أين الناس الذين كانوا يقيمون هنا وانشقّت الأرض وابتلعتهم؟
يموت الضبّاط الذين حاربوا في نهر البارد كلّ يوم مئة مرّة وهم ينظرون إلى عجز أجسامهم عن الحركة، ولا أحد يقول: يا جماعة، حرام أن تذهب تضحياتهم هباء! لقد شلّت أطرافهم لأنّهم وقفوا في وجه الأصوليّة الحاقدة فهل ننسى ذلك لأنّنا اعتدنا على منظر الضحايا؟
الشهداء والمعاقون، الأسرى والمخطوفون، اليتامى والأرامل والثكالى، المغتصبة حقوقهم والمسلوبة أرضهم، كلّهم أجزاء من لوحة جداريّة كبيرة اسمها: الضحيّة.
والجلاّد؟
نحن الضحيّة والجلاّد. نحن الذين اعتادت عيوننا منظر الدمار والأشلاء، واستساغت أسماعنا صوت الأنين، واستطابت أنوفنا رائحة الدم المتخثّر، وعشقت أفواهنا طعم الهزيمة، وارتاحت أيدينا إلى ملمس النار. نحن الذين نفرح حين يقع الانفجار في حيّ غير الحيّ الذي نقيم فيه، ونرتاح حين نعلم أنّ الذين ماتوا لا نعرفهم، ونشكر الله على أنّنا لم نكن هناك ساعة الانفجار، ونهلّل لأنّ القتلى والجرحى كلّهم من غير طائفتنا، أو من غير عائلتنا.
نحن كلّنا شهود زور، نسكت على الخطأ الصغير ونقول: لا يستحقّ الأمر أن نثور فالخطأ صغير. ونسكت على الجريمة الكبيرة ونقول: الأمر أكبر منّا بكثير، فماذا نستطيع أن نفعل؟
سأقول لكم: إذا وقعت ضحيّة جديدة، في أيّ مكان من بلادنا ولأيّ سبب، فليلبس الواحد منكم أجمل ثوب عنده، وليسرّح شعره، وليبتسم ابتسامة عريضة عندما يقف إلى جانب الضحيّة وليطلب من أحد أن يلتقط لهما صورة جميلة، ثمّ يضعها في ألبوم العائلة بعد أن يكتب تحتها: قبل أن ألحق به!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق