الأحد، 23 أكتوبر 2011

فصل من روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا" (دار سائر المشرق- 2011)



(أنطوان)
"أين كانت "جولييت" حين كنت أعمل في التمريض؟ لم تكن ولدت حين بدأت العمل في (العصفوريّة) في الحازميّة حارسًا على المجانين، وبعدما انتهى بناء (الطبيّة) على طريق الشام انتقلت إليها وصرت صديقًا لكلّ الأطبّاء فيها من فرنسيّين ولبنانيّين. "أوجيني" صارت معجوقة بصديقتها الممرّضة وصارت تستشيرها في أنواع الأمراض وأصناف الأدوية. ولم يعد لي كلمة في بيتي. أفهم في أمراض العقل والجسد ومع ذلك يسخر منّي أولادي حين أقول رأيي ويسألونني عن شهادة الطبّ التي أحملها. أربع سنوات مع المجانين وعشر سنوات على بوّابة الطبيّة الواسعة، أسأل الأطبّاء الداخلين عن أحوالهم وأستجوب الأطبّاء الخارجين. الذين يعلّمون أسألهم ماذا علّموا اليوم، والذين يتعلّمون أسألهم ماذا تعلّموا اليوم. وكنت في طريق العودة إلى البيت مشيًّا لأكثر من نصف الطريق أستعيد ما سمعته لأسلّي نفسي، وحين ألتقي أصدقائي عند العصر لنلعب "دقّ طاولة" كنت أنصحهم بأكل هذا النوع من الطعام والامتناع عن هذا الصنف. وكثيرًا ما حملت إليهم أدوية جرى تركيبها أمامي حين كان أحد الأطبّاء الصيادلة يدعوني إلى المشاهدة عندما أجد من يقف مكاني على البوّابة الكبيرة.
"جولييت" لم تصدّقني حين وصفت لها حالة زوجها من دون أن أراه أو أعرفه أو أسمعه. أخبرتها عن حالات مشابهة كنت أراقبها في (العصفوريّة)، صحيح أنّني كنت حارسًا لا ممرّضًا ولكن في تلك الأيّام كان تمريض المجانين مجرّد حراسة تتطلّب ساعدين قويّين وقلبًا شجاعًا، بل تتطلّب أن تكون فقيرًا وتحتاج إلى عمل، وبعد ذلك يمرّن الواحد منّا قلبه وساعديه، خصوصًا متى كان عمله في الليل. ولكن ذلك لا يعني أنّنا لم نتعلّم حقن المرضى بالأدوية المهدّئة حين تنتابهم الحالات العصبيّة القويّة. كان يكفي أن يمسك بالمريض اثنان من الحرّاس ليضرب الثالث الحقنة في أيّ مكان يمكن الوصول إليه من الجسم الهائج، أو يتعاون الجميع لإدخال المريض الثائر في القميص ذي الأحزمة. المرّات الأولى تكون صعبة، بعد ذلك، تعتاد يدنا استعمال الحقنة كما تعتاد آذاننا سماع كلماتهم طوال الليل.
الليل عالم آخر في مستشفى المجانين.
حين باشروا بناء العصفوريّة أسرعنا كلّنا من المنطقة والجوار للعمل فيها، أوّلاً في حفر الأساسات وحمل الأتربة على الحمير والبغال، وبعد ذلك في البناء، حمّالين ومعلّمي باطون ونجارة وتبليط. لم نكن معلّمين، تعلّمنا هناك. بعدما انتهت هذه المرحلة ودشّنوا المبنى الأوّل صرنا ممرّضين وحرّاسًا وطبّاخين. النساء انضممن إلينا للخدمة في الأبنية الثلاثة المخصّصة للنساء أو لغسل ثياب المرضى وأغطية الأسرّة وملابس الممرّضين والممرّضات في المبنى الذي صار اسمه بيت الغسيل. عشرات الأوعية المصفوفة إلى جانب بعضها وعشرات النساء يدعكن الثياب القذرة وينقلنها من طشت إلى طشت، ومن يد امرأة إلى يد امرأة كي تصل نظيفة مغسولة بالمياه الساخنة والصابون البلديّ. عشرات النساء للغسيل وعشرات النساء لتفويح الغسيل ونشره. وعند الغروب، كانت الطريق الخارجة من (العصفوريّة) والتي تصبّ في الشوارع المجاورة تزدحم بالرجال والنساء وهم يحملون أكياسًا من الورق الأسمر، خالية من الفتات، ترجع معهم إلى البيوت ليحملوا فيها عند الفجر زوّادة يومهم من البطاطا المسلوقة والبندورة والزيتون وعرائس التين المطبوخ. لولا الفقراء لما وجد المجانين من يخدمهم.
بعد نقطة الدرك، ندخل إلى منطقة العصفوريّة من بوابّة كبيرة يقيم إلى جانبها الحارس في غرفة سمّيناها غرفة الموتى. إذ كانت جثث الموتى من المجانين توضع فيها في انتظار أن يأتي أهلهم. وما بين موت أحدهم ووصول أهله كان الحارس يسرق أسنان الذهب وأطقم الأسنان الاصطناعيّة من أفواه المجانين. ومن الأموال التي جمعها الحرّاس الذين تناوبوا على المركز وتوارثوا أسرار المهنة ارتفعت بيوت كبيرة في المنطقة، بيوت كبيرة وجميلة يتباهى بها اليوم ساكنوها. بعد البحث ليس كلّ ما يخرج من أفواه المجانين لا قيمة له في سوق العقلاء. وحين يأتي الأهل ليتسلّموا الجثّة، إن أتوا شخصيًّا، لن يسألوا عمّا كان في فمها واختفى. فالمجنون هو من كسر أسنانه في نوبة غضب، والمجنون هو من رمى طقم أسنانه حين لم يعجبه الطعام.
كلّ الأخبار تصحّ على هؤلاء الناس.
العصفوريّة مدينة ساهم في تأسيسها أكثر من دولة، سبعة أبنية لسبع دول. أنا كنت في المبنى البريطاني الذي كناّ نسمّيه روبرت هاوس، أخي كان في مبنى أميركا، والأبنية الموزّعة حول الباحة التي تتوسّط المكان الشاسع كلّها من الحجر المصقول وسقوفها من القرميد الأحمر، ثلاثة منها للنساء. في وسط الباحة بناء مدوّر للحرّاس له باب وسبع نوافذ عليها مشبكّات من الحديد المشغول كأنّ الحرّاس يحتمون خلفها من نوبات جنون جماعيّة قد تصيب مئات من سكّان العصفوريّة دفعة واحدة.
في طريق عودتنا إلى منازلنا، كنّا نمّر أمام غرفة الموتى ثمّ نخرج إلى الطريق العامّ حيث دكّان "يعقوب" الذي كانت تتوقّف عنده قوافل النازلين من الجبل إلى بيروت والصاعدين من بيروت إلى الجبل. وأمام الدكّان نفسه صرخ ابن يعقوب مناديًا والده:
(يا أبي، هناك خوري درزي نازل ع بيروت مع قطيع غنم طويل عريض).
ومن أمام العصفوريّة طارت إلى القرى المجاورة حكاية الشيخ الدرزي بعباءته ولحيته وقطيعه بعدما رسمه ابن "يعقوب" كاهنًا.
لا تنتهي حكايات العصفوريّة. في كلّ يوم حكايات يختلط فيها الحزن بالضحك: حكاية الدركي الذي ترك زميله وحده على المدخل وذهب ليشتري ما يأكله من دكّان يعقوب. في غيابه هرّب الدركي الآخر مريضًا. كان سجينًا من المدمنين على المخدّرات. المجنون لا يجد من يدفع عنه رشوة لتهريبه. أمّا المدمن فيستطيع تدبير الأمر. تجّار المخدّرات يهربونه لحاجتهم إلى زبائن. فإن صار المدمنون كلّهم في العصفوريّة أفلس التجّار من أمثال حبيب شقيق الممرّضة.
كانت العصفوريّة تدفع خمسًا وعشرين ليرة لمن يعيد مريضًا إليها. والدركي كان يهرّب المجانين ويتواطأ مع من يعيدهم إليها فيقبض في كلا الحالين.
مسز "هيلين" رئيسة المستشفى لم تكن تقبل غير المسيحيّين للعمل في العصفوريّة. وحين أراد ابن جيراننا "حسين" أن يلتحق بنا، وكنّا نحو عشرين رجلاً وامرأة، رفضته المرأة الإنكليزيّة التي لا تبتسم. ولكنّ "حسين" احتاط للأمر وأظهر لها شهادة عماده فقبلته. أفادته أمّي لـ"حسين" حين قالت لأمّه جارتها:
(عمّدي الصبي كي يشفى من أمراضه).
في ذلك الزمن لم تزعل "إم حسين" ممّا سمعته، لو قيل هذا الكلام اليوم، لصار الدم للركب.

في أسفل العصفوريّة مدفن امرأة اسمها "سعود". كانت تقيم مع رجل بلا زواج فأنزلت بها الكنيسة حرمًا، وحين ماتت دفنت بين الصخور من دون صلاة أو بخّور. "سعود" كانت جارة العصفوريّة في حياتها وموتها. هي مثلهم كانت خارجة عن قوانين الناس والمجتمع، ومثلهم كانت لها حكاية لا يعرف أحد الحقيقة فيها من الخيال".

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

مساء الخير والمحبة
كيف يمكن الحصول على الرواية في فرنسا وليون تحديدا؟
هل ترجمت الى الفرنسية؟

ماري القصيفي يقول...

مساء الخير، شكرًا على السؤال، والرواية لم توزّع بعد في الخارج، وهناك سعي لترجمتها إلى الفرنسيّة. يسعدني أن أرسلها إن عرفت الاسم والعنوان

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.