يوم الدينونة
Angelico - 1432
Raphael Coxcie- 1600
Machelangelo
لم أعد أصدّق أنّ والدًا يقتل ابنته إن كان الرجل الذي تحبّه ثريًّا كريمًا (أو صاحب سلطة وسلطان)، ولو رآهما، عاريين في السرير؛ أو أنّ شابًّا يقصف عمر شقيقته إن كان حبيبها من ذوي الدخل غير المحدود (أو من الفاعلين القادرين) ولو أنجبت منه دزينة أطفال غير شرعيّين، ما دام هذا الحبيب قد جعل الشقيق شريكًا له في المال والسلطة ونعيم الحياة.
جرائم الشرف، ولنكن صريحين، تجد تربتها الخصبة في عالم الفقر والعوز والخوف. وعدا ذلك فلا أحد يسأل عن الشرف إن كان المردود الماديّ لعلاقة عاطفيّة معيّنة يكفي كي ينعم الجميع بالبحبوحة والترف. عندنا في لبنان مثل شعبيّ يقول: "المال بيجرّ المال، والقمل بيجرّ السيبان"، وأضيف، والفقر يجرّ الجرائم، ولكن ليس بالضرورة جرائم شرف.
كان المال، ولا يزال، حلاّل المشاكل، خصوصًا في بلاد تحكمها شريعة الغاب، ويأكل فيها القويّ حقوق الضعيف، ولا ضمانات اجتماعيّة وصحيّة لمرضاها وعجزتها ومعوّقيها، ولم تخرج بعد من حروب أهليّة قضت على بعض أخلاق كانت لا تزال تجد لها مكانًا في نفوس أبنائها. ففي جوّ موبوء كهذا، يوضع الشرف في ثلاّجة في انتظار عودة الحاجة إليه، وتصير الشطارة هي الحلّ لمعالجة شتّى أنواع المشكلات، وتخطّي مختلف الصعوبات...والشطارة تعني أن يتعلّم الجميع من أين تؤكل الكتف...وسائر الأعضاء!
فالفقير اليوم لا يتوقّف كثيرًا عند مصدر غنى ابنته ما دامت تؤمّن له فواتير الكهرباء والمياه والاستشفاء، فكيف يمنعها عن تحصيل ما يمكنها تحصيله وهو يعرف أنّه عاجز عن أن يؤمّن له ولها ولأخوتها ما يسدّ الحاجة؟ وكيف يمنع شاب أخته من الزواج بثريّ عربيّ أو أجنبيّ، من دينها أو من غير دينها، ما دام هذا العريس اللقطة قد اشترى للشقيق شقّة فخمة وجعله وكيل أعماله في لبنان؟ وكيف تعارض أمّ خروج ابنتها مع ابن الجيران المشبوه السمعة ما دام يلعب بالدولارات لعبًا؟
لا يستطيع الشرف أن يجد له مكانًا في عالم الرجال الكسالى الذين يسهل عليهم قتل نسائهم أو تعنيفهنّ ويصعب عليهم إيجاد عمل بل يرفضون أيّ عمل إن لم يكن مزراب ذهب. فأمام السلطة والمال تختفي الصراعات الطبقيّة والخلافات الطائفيّة والحساسيّات المذهبيّة، ويصير كلّ الناس متساوين كأسنان المشط، ولا يعود من فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بمقدار رصيده في المصرف، أو لأعجميّ على غربيّ إلّا بمقدار ما يملكه من عقارات وأسهم وشركات. لذلك يثير ضحكي كلام الناس عن الشرف والسمعة والصيت الحسن في حين لا يهجس الجميع إلّا بالراتب وموعد استحقاقه، والصفقة التجاريّة ونسبة الربح منها، واللوتو وكميّة المبالغ المتراكمة، و"معك ليرة بتسوى ليرة". وإلّا فكيف نفهم هذه الهجمة الشرسة للفتيات الشابّات على العمل في البارات والتلفزيونات والمسلسلات وعلى المشاركة في مسابقات الجمال، وكلّ ذلك برضا الوالدين والجدّين وسائر أفراد العائلة؟
لم يعد تكفي عبارة "عالم ماديّ" للدلالة على هذا السعي المحموم والتكالب الشرس لامتلاك كلّ شيء. باتت اللغة عاجزة عن إيجاد وصف لحالة ليس الآباء فيها آباء بل قوّادون، وليست الوالدات فيها أمّهات بل شريكات مضاربات في الربح، والأطفال ليسوا أبرياء حتّى إثبات العكس.
اللعنة ثمّ اللعنة ثمّ اللعنة على هذا العالم القبيح المدوّد، حيث المياه آسنة كرغبات المغتصبين، والأشجار سقيمة كعقول الفنانات الصاعدات، والأزهار مخادعة كقبور حديثي النعمة!
هناك 4 تعليقات:
رائعة كالعادة سيدة ماري
تحيّاتي أستاذ محسن مع الشكر والتقدير
مقالة رائعة كالعادة أما جرائم الشرف، فبالنسبة إلي ليست سوى تعبير عن خلل ومرض نفسي ليس إلا...لا شيء يبرر القتل...ولمجرم الحقيقي هي هذه المجتمعات الفاسدة ...ودمت حرة يا صاحبة الكلم السحري
تحيّاتي أولغا، وشكرًا على تعليقك الذي أوافقك على ما فيه. نحن المجتمع حاضن المجرمين ، والإجرام هو كلّ ما يؤذي الآخر بغض النظر عن حجم الجريمة
إرسال تعليق