رفضت دائمًا أن نكون مع الاخرين، لأنّ القلق الذي سكنني منذ البدايات جعلني خائفة من أن يبقى الآخرون ويعبر هو، وواثقة من أنّ هؤلاء الذين يبحثون عن صورته في خيال كلماتي يريدون أن يروا في عينيّ أحرفًا لم أرسمها بعد.
شعرت بشكل لا يقبل النقلش بأنّ هذه اللقاءات ستجعلني صفحة مفتوحة على طاولة أحد المطاعم، تتداولها الأيدي وتعمل فيها الألسنة قراءة وتحليلاً وتنقيبًا، وبأنّ النصّ الذي كتبني قبل أن أكتبه ستتطعّم حروفه بنكهة القهوة المرّة، وسيكلّله دخان سيكارة تشتعل غيرة. وعندما كنت أرفض دعواته إلى الانضمام إلى الآخرين، كنت أعجز عن التبرير، فيأتي الاعتذار مجبولاً بالتردّد والاضطراب كأنّي على أبواب امتحان لم أستعدّ له كما يجب.
في الحقيقة أنا لم أخف إلّ على علاقة اعتبرت دومًا أنّها سريعة العطب كتمثال من الكريستال الشفّاف لا يمكن وضعه بين أيدي أطفال يحبّون اللعب، ونادرة كتذكار حمله سائح من بلاد بعيدة لن يعود إلى زيارتها في هذه الحياة، وثمينة كىخر أيّام الصيف في حياة عجوز.
الآخرون بلا شكّ هم الثمينون والنادرون في حياته، هم مجاله الحيويّ والرئة الكبرى التي تمدّ العالم حوله بالهواء المنعش، ومن دونهم كان يشعر بالاختناق. لكنّهم، بالنسبة إليّ، هم المتطفّلون الذين اقتحموا حديقتي السريّة وقطفوا ورودها وأزعجوا سكينتها.
كنت أعرف أنّ هذا المنحى الطفوليّ فيّ لا يتآلف مع طبعه، واكتشفت مع الأيّام أنّ فسحات لقاءاتنا ستضيق شيئًا فشيئًا. وكان أمامي أن أنتظر اختقاءها تحت زحمة الأيّام والناس من غير أن أجد في نفسي الشجاعة لاقتحام الجموع حوله، ولم أكن لأستطيع حقًّا السماح لنفسي بالذوبان في تربة وجود هؤلاء الذين نما بينهم وارتفع، فصاروا نسغ حياته.
حين كان المكان يضمّنا وحيدين، استطعت غالبًا أن أتلمّس الطريق إلى العميق منّي، وأن أدخل بثقة المصحوب العارف الواثق. أمّا حين يحضر الآخرون فكان المكان يتحوّل فجأة متاهة باهتة أو صحراء بلا خيال أو منازل مستنسخة في مدينة تكرّر نفسها كلّ صباح. وبينهم، كان صديقي يتخلّى عن دوره كبوصلة ترشدني إلى البدايات القلقة المثيرة، بينهم، كان يتحوّل رجلاً يحبّه الجميع ويرغب فيه الجميع. وعند ذاك كنت أبدو قطعة أثاث في غير مكانها أو نُدبًا وقحًا في وجه متناسق التقاسيم. وأشعر بأنّ الوضع لن يستمرّ طويلاً على ما هو عليه وسوف تلحّ الحاجة قريبًا إلى مهندس ديكور يعيد تصميم المشهد المضطرب، أو جرّاح بارع يمحو الأثر المعيب...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق