فضلاً عن العائلات الروحيّة (كي لا نقول الفئات الطائفيّة والمذهبيّة)، والأحزاب السياسيّة والتجمّعات النقابيّة والمدارس الفكريّة والاتجاهات الأدبيّة، عندنا في لبنان ميلشيات ثقافيّة بزعماء ومتاريس وخطط عسكريّة. ونحن أبناء الحرب خبرنا جيّدًا طريقة عمل المليشيات غير النظاميّ وميولها الإجراميّة التخريبيّة التقسيميّة التهجيريّة، ولمسنا لمس اليد المصير الذي أوصلتنا إليه.
ولأنّ من طبيعة العمل الميليشيوي الرغبة في السيطرة والانتصار بأيّ ثمن، كان من المتوقّع ألا يقبل المنضوون تحت لواء هذه الميليشيا أو تلك الحوار مع الآخر أو الاعتراف بحقّه في الوجود. لا بل يعملون على تجاهله ثمّ إلغائه لتخلو لهم "الساحة الثقافيّة" فيصولون فيها ويجولون من دون أن يزعجهم أحد
ومن الطبيعيّ كذلك ألا تقبل هذه الميليشيات في عداد عناصرها إلاّ من "يطبّل" لزعمائها ويكيل المديح لأفكارهم وأساليبهم، فيكتب هؤلاء الأتباع بأقلام أسيادهم ولا يجرأون على الخروج عن الخط المرسوم لهم. ولذلك تتكرّر الأفكار في عمليّة اجترار سمجة ومملّة تستعاد فيها الكلمات والشعارات بتوقيع واحد وإن اختلفت الأسماء.
والويل، كلّ الويل، لطائر يغرّد خارج سرب هذا أو ذاك من أصحاب النفوذ الثقافيّ، إذ ستحاصره منذ اللحظة الأولى الكواسر لتطرده من سماء الإبداع التي رغب في أن يمرّن جناحيه على الطيران فيها وصولاً إلى الانطلاق والتحليق.
إن مجرّد استخدامنا مصطلح "الساحة الثقافيّة" يعني أنّنا نتحدّث عن ساحة القتال، حيث يتواجه المثقفون مسلّحين بالحقد أوّلاً، وبخطط الكرّ والفرّ والالتفاف التي تنتجها مخيلاتهم الخصبة. وبما أنّ كلّ شيء مشروع في الحبّ والحرب، لا يتردّد كثر من الذين يعتبرون أنفسهم "زبدة" المثقّفين في تسلّق أكتاف المختلفين عنهم ومعهم ليصلوا إلى قمم الشهرة والانتشار، وليحتلّوا المنابر على اختلاف أنواعها، فيقفزون من التلفزيون إلى الصحيفة ومن الصحيفة إلى الإذاعة ومن الإذاعة إلى المجلّة، ومن الفسحة اللبنانيّة إلى الانتشار العربيّ عبر الخدمات المتبادلة فالغربيّ عبر الترجمات المنعم بها على المختارين، وأحيانًا كثيرة يحتلّونها جميعها لا بسبب البراعة والإبداع والتفوّق بل بسبب علاقات تبدأ بالصحافة وتمرّ في الأدب وتنتهي في السياسة وما يتفرّع منها . المهمّ ألا يسمع الناس سوى أصواتهم (أو أصوات جوقة المردّدين خلفهم)، وألّا يقرأوا إلا كلماتهم (أو الكلمات التي تمدحهم وتشيد بأعمالهم) وألّا يروا إلّا وجوههم (أو الوجوه التي تشبههم
والطريف في الأمر أن أقلام هؤلاء "الزعماء" لا تتوقّف عن مهاجمة العولمة ذات الخط الأحاديّ والتنديد بإلغاء خصوصيّات القوميّات والأفراد والدعوة إلى التنوّع والانفتاح والديمقراطيّة والعمل على تحرير الشعوب وتغيير الأنظمة. غير أنّ بين أقوالهم وأفعالهم بونًا شاسعًا.
وعن هذه الطبقة من المثقّفين يقول المفكّر علي حرب في كتابه الذي أثار عند صدوره ردود فعل تراوحت بين التنديد والتأييد "أوهام النخبة أو نقد المثقّف": " لا يشكّل المثقّفون مجتمعًا تحكمه مبادئ العقلانيّة وقواعد الفضيلة. فهم شأنهم شأن أصحاب المهن الأخرى، لهم حسناتهم ومساوئهم. وقطاعهم المجتمعيّ أو حقلهم الإنتاجيّ، شأنه شأن بقيّة الحقول والقطاعات، هو مجال للتنافس والنزاعات، وبؤرة للضغوطات والتوتّرات. إنّه "حقل صراع" بين العاملين والمنتجين، على امتلاك السلع الرمزيّة واستخدامها في تحقيق المكاسب وتوسيع النفوذ. ومعنى ذلك أنّ العلاقات داخل الحقل الثقافيّ هي علاقات قوّة، أي علاقات بين قوى وتجمّعات لا تخلو من بربريّة الغاب وفاشيّة العصبيّات وعقليّة المافيات الحديثة، فضلاً عن النرجسيّة التي يتمتّع بها المثقّفون، لاعتقادهم بأفضليّة العمل الفكريّ على العمل اليدويّ".
ونضيف إلى ذلك أنّ المثقّفين لا يؤمنون بأفضليّة عملهم على العمل اليدوي فحسب بل إنّهم داخل تجمّعاتهم نفسها ينقسمون طبقات ومجموعات فيها الأقوياء والمسيطرون وأصحاب الحظوة الذين يجيدون لعبة العلاقات العامّة ويبرعون في العلاقات الخاصّة مع أولي الشأن وأصحاب الثروات والسلطة، وفيها في المقابل الأتباع الببغائيّون الذين يمشون في فيء الفئة الأولى ويقتاتون من الفتات المتساقط عن موائدها.
ولا شكّ أنّ زعماء هذه الميليشيات يقرأون ما يكتبه سواهم ويقلّدونه أو يستوحون أفكاره ويسرقون عن الإنترنت ويترجمون عن لغات العالم كلّها، ولكنّهم ليسوا مضطرين إلى الإعلان عن ذلك أو الاعتراف به أو الخوف من معرفته، لأنّهم، وبسبب غرورهم، مقتنعون بأنّ من يقرأ كتاباتهم لا يقرأ ما يكتبه سواهم، وبالتالي لن يعرف المعجبون بهم حقيقة إبداعهم ومصادره.
الوضع في "الساحة الثقافيّة" في لبنان إذًا كالوضع في الساحات السياسيّة والأمنية والاقتصاديّة فيه، مفتوح على كلّ الاحتمالات إلا احتمال الحريّة والديمراطيّة ( والقمع ليس من السلطة السياسيّة فقط كما يتبادر إلى الذهن بل من المثقّفين أنفسهم) . وفي ذلك نحن مطمئنون إلا أنّنا لا نختلف عن كثر سوانا.
ولا يغيبنّ عن البال أنّ القارئ العاديّ لا يستطيع في هذا الجو الثقافيّ الموبوء (ونحصره في الإبداع الكتابيّ بسبب غياب الفنون التعبيريّة الأخرى وضحالة إنتاجها) التمييز بين الغث والسمين، فلا يعرف إن كان غياب فلان عن الصفحات الأدبيّة في الصحف والمجلاّت ناتج عن عدم أهليّته أو بسبب أجكام مسبقة ومشاعر معيّنة يحملها المسؤول عن هذه الصفحات تجاهه، وهل الإشارة إلى كتاب والتسويق له ناتجان عن أهميّة الكتاب أم لأنّ علاقات الودّ تجمع بين الكاتب والناقد، وهل قيمة الرواتب (المزاجيّة) محكومة بالقيمة الفعليّة لما يُكتب أم بعاطفة جيّاشة تغضّ الطرف عن التكرار والأخطاء والسرقة وتتجاهل الثرثرة والغلو والابتذال وتدفع ثمنها غاليًا. وكيف نريد من القارئ أن يعرف مستوى الأعمال الأدبيّة وقيمتها الفعليّة إن كان الكاتب نفسه لا يستطيع ذلك، فهل هو الطفل المعجزة تدلّله حلقة أصدقائه ومحبّيه وتعتبره النهضويّ الثائر والمجدّد العبقريّ، أم هو مجرّد عابر في فضاء الإبداع الشاسع ولن يترك أثرًا يذكر متى حُملت عدّة النقد الفعليّة الموضوعيّة؟
لقد اعتدنا في لبنان، ولغياب العمل المؤسساتي القائم على التخطيط والتواصل والنظرة الموضوعيّة، أن نقول: لكلّ عهد رجاله. ونقصد بذلك أنّ كلّ مسؤول يصل إلى مركز معيّن - ولو بسيطًا – يعمل منذ لحظة تعيينه على محو المراحل التي سبقته بما ومن فيها، ويبدأ من جديد بأفكار ثوريّة (قد تكون هي القديمة نفسها ولكن بشكل آخر) وعناصر بشريّة أخرى، ولذلك فنحن نبدأ من الصفر دائمًا وندور حوله طويلاً ثم نعود إليه غالبًا ونحن لا ندري. وتلك هي المصيبة العظمى.
ولأنّ من طبيعة العمل الميليشيوي الرغبة في السيطرة والانتصار بأيّ ثمن، كان من المتوقّع ألا يقبل المنضوون تحت لواء هذه الميليشيا أو تلك الحوار مع الآخر أو الاعتراف بحقّه في الوجود. لا بل يعملون على تجاهله ثمّ إلغائه لتخلو لهم "الساحة الثقافيّة" فيصولون فيها ويجولون من دون أن يزعجهم أحد
ومن الطبيعيّ كذلك ألا تقبل هذه الميليشيات في عداد عناصرها إلاّ من "يطبّل" لزعمائها ويكيل المديح لأفكارهم وأساليبهم، فيكتب هؤلاء الأتباع بأقلام أسيادهم ولا يجرأون على الخروج عن الخط المرسوم لهم. ولذلك تتكرّر الأفكار في عمليّة اجترار سمجة ومملّة تستعاد فيها الكلمات والشعارات بتوقيع واحد وإن اختلفت الأسماء.
والويل، كلّ الويل، لطائر يغرّد خارج سرب هذا أو ذاك من أصحاب النفوذ الثقافيّ، إذ ستحاصره منذ اللحظة الأولى الكواسر لتطرده من سماء الإبداع التي رغب في أن يمرّن جناحيه على الطيران فيها وصولاً إلى الانطلاق والتحليق.
إن مجرّد استخدامنا مصطلح "الساحة الثقافيّة" يعني أنّنا نتحدّث عن ساحة القتال، حيث يتواجه المثقفون مسلّحين بالحقد أوّلاً، وبخطط الكرّ والفرّ والالتفاف التي تنتجها مخيلاتهم الخصبة. وبما أنّ كلّ شيء مشروع في الحبّ والحرب، لا يتردّد كثر من الذين يعتبرون أنفسهم "زبدة" المثقّفين في تسلّق أكتاف المختلفين عنهم ومعهم ليصلوا إلى قمم الشهرة والانتشار، وليحتلّوا المنابر على اختلاف أنواعها، فيقفزون من التلفزيون إلى الصحيفة ومن الصحيفة إلى الإذاعة ومن الإذاعة إلى المجلّة، ومن الفسحة اللبنانيّة إلى الانتشار العربيّ عبر الخدمات المتبادلة فالغربيّ عبر الترجمات المنعم بها على المختارين، وأحيانًا كثيرة يحتلّونها جميعها لا بسبب البراعة والإبداع والتفوّق بل بسبب علاقات تبدأ بالصحافة وتمرّ في الأدب وتنتهي في السياسة وما يتفرّع منها . المهمّ ألا يسمع الناس سوى أصواتهم (أو أصوات جوقة المردّدين خلفهم)، وألّا يقرأوا إلا كلماتهم (أو الكلمات التي تمدحهم وتشيد بأعمالهم) وألّا يروا إلّا وجوههم (أو الوجوه التي تشبههم
والطريف في الأمر أن أقلام هؤلاء "الزعماء" لا تتوقّف عن مهاجمة العولمة ذات الخط الأحاديّ والتنديد بإلغاء خصوصيّات القوميّات والأفراد والدعوة إلى التنوّع والانفتاح والديمقراطيّة والعمل على تحرير الشعوب وتغيير الأنظمة. غير أنّ بين أقوالهم وأفعالهم بونًا شاسعًا.
وعن هذه الطبقة من المثقّفين يقول المفكّر علي حرب في كتابه الذي أثار عند صدوره ردود فعل تراوحت بين التنديد والتأييد "أوهام النخبة أو نقد المثقّف": " لا يشكّل المثقّفون مجتمعًا تحكمه مبادئ العقلانيّة وقواعد الفضيلة. فهم شأنهم شأن أصحاب المهن الأخرى، لهم حسناتهم ومساوئهم. وقطاعهم المجتمعيّ أو حقلهم الإنتاجيّ، شأنه شأن بقيّة الحقول والقطاعات، هو مجال للتنافس والنزاعات، وبؤرة للضغوطات والتوتّرات. إنّه "حقل صراع" بين العاملين والمنتجين، على امتلاك السلع الرمزيّة واستخدامها في تحقيق المكاسب وتوسيع النفوذ. ومعنى ذلك أنّ العلاقات داخل الحقل الثقافيّ هي علاقات قوّة، أي علاقات بين قوى وتجمّعات لا تخلو من بربريّة الغاب وفاشيّة العصبيّات وعقليّة المافيات الحديثة، فضلاً عن النرجسيّة التي يتمتّع بها المثقّفون، لاعتقادهم بأفضليّة العمل الفكريّ على العمل اليدويّ".
ونضيف إلى ذلك أنّ المثقّفين لا يؤمنون بأفضليّة عملهم على العمل اليدوي فحسب بل إنّهم داخل تجمّعاتهم نفسها ينقسمون طبقات ومجموعات فيها الأقوياء والمسيطرون وأصحاب الحظوة الذين يجيدون لعبة العلاقات العامّة ويبرعون في العلاقات الخاصّة مع أولي الشأن وأصحاب الثروات والسلطة، وفيها في المقابل الأتباع الببغائيّون الذين يمشون في فيء الفئة الأولى ويقتاتون من الفتات المتساقط عن موائدها.
ولا شكّ أنّ زعماء هذه الميليشيات يقرأون ما يكتبه سواهم ويقلّدونه أو يستوحون أفكاره ويسرقون عن الإنترنت ويترجمون عن لغات العالم كلّها، ولكنّهم ليسوا مضطرين إلى الإعلان عن ذلك أو الاعتراف به أو الخوف من معرفته، لأنّهم، وبسبب غرورهم، مقتنعون بأنّ من يقرأ كتاباتهم لا يقرأ ما يكتبه سواهم، وبالتالي لن يعرف المعجبون بهم حقيقة إبداعهم ومصادره.
الوضع في "الساحة الثقافيّة" في لبنان إذًا كالوضع في الساحات السياسيّة والأمنية والاقتصاديّة فيه، مفتوح على كلّ الاحتمالات إلا احتمال الحريّة والديمراطيّة ( والقمع ليس من السلطة السياسيّة فقط كما يتبادر إلى الذهن بل من المثقّفين أنفسهم) . وفي ذلك نحن مطمئنون إلا أنّنا لا نختلف عن كثر سوانا.
ولا يغيبنّ عن البال أنّ القارئ العاديّ لا يستطيع في هذا الجو الثقافيّ الموبوء (ونحصره في الإبداع الكتابيّ بسبب غياب الفنون التعبيريّة الأخرى وضحالة إنتاجها) التمييز بين الغث والسمين، فلا يعرف إن كان غياب فلان عن الصفحات الأدبيّة في الصحف والمجلاّت ناتج عن عدم أهليّته أو بسبب أجكام مسبقة ومشاعر معيّنة يحملها المسؤول عن هذه الصفحات تجاهه، وهل الإشارة إلى كتاب والتسويق له ناتجان عن أهميّة الكتاب أم لأنّ علاقات الودّ تجمع بين الكاتب والناقد، وهل قيمة الرواتب (المزاجيّة) محكومة بالقيمة الفعليّة لما يُكتب أم بعاطفة جيّاشة تغضّ الطرف عن التكرار والأخطاء والسرقة وتتجاهل الثرثرة والغلو والابتذال وتدفع ثمنها غاليًا. وكيف نريد من القارئ أن يعرف مستوى الأعمال الأدبيّة وقيمتها الفعليّة إن كان الكاتب نفسه لا يستطيع ذلك، فهل هو الطفل المعجزة تدلّله حلقة أصدقائه ومحبّيه وتعتبره النهضويّ الثائر والمجدّد العبقريّ، أم هو مجرّد عابر في فضاء الإبداع الشاسع ولن يترك أثرًا يذكر متى حُملت عدّة النقد الفعليّة الموضوعيّة؟
لقد اعتدنا في لبنان، ولغياب العمل المؤسساتي القائم على التخطيط والتواصل والنظرة الموضوعيّة، أن نقول: لكلّ عهد رجاله. ونقصد بذلك أنّ كلّ مسؤول يصل إلى مركز معيّن - ولو بسيطًا – يعمل منذ لحظة تعيينه على محو المراحل التي سبقته بما ومن فيها، ويبدأ من جديد بأفكار ثوريّة (قد تكون هي القديمة نفسها ولكن بشكل آخر) وعناصر بشريّة أخرى، ولذلك فنحن نبدأ من الصفر دائمًا وندور حوله طويلاً ثم نعود إليه غالبًا ونحن لا ندري. وتلك هي المصيبة العظمى.
هناك تعليقان (2):
الساحة الثقافية اليوم هي صراع نرجسيات سرطانية (و ليس نرجسيات عادية يمكن التعايش معها), و هناك نرجسيات ثقافية تتفق و أخرى تتعارك... و هات ليل و خود عتابا
تحياتي
مرحبا، يقال عن السرطان أنّه المرض الخبيث لأنّك لا تعرف متى ينتشر وأين كان كامنًا. لذلك أوافق من دون تردد على وصفك الصراع النرجسيّ بالسرطان الذي لا يمكن التعايش معه.
ما حدا طايق حدا، والمتّفقون بينهم يخافون من أقلام بعضهم
تحيّاتي
إرسال تعليق