السيّدة التي تساعدنا في أعمال المنزل سريلانكيّة. نعم، فنحن من طبقة لا تستطيع أن تطلب مساعدة الفليبنيّات ولا حتّى الحبشيّات، لذلك كان علينا أن نرضى بالمستطاع (جنسيّات الخدم في بلادنا مرتبطة بالمستويات الاجتماعيّة!!). المهمّ أنّ السيّدة السريلانكيّة تجيد مختلف أنواع الأعمال ما عدا استخدام الكمبيوتر والإنترنت! لذلك رحت أفكّر في تعليمها ذلك لعلّها تساعدني في طباعة مقالاتي التي أكتبها لها على المسوّدات وكذلك في البحث عن المعلومات، وهكذا أستطيع أسوة بباقي ربّات البيوت ذوات الخدم والحشم أن استنفد طاقة تلك المرأة حتى آخر نفس. إذ يعجبني ذكاء بعض السيّدات من اللواتي يربّين الكلاب في منازلهنّ (أحسن من تربية الأولاد!) حين يستفدن حتى "الرمق الأخير" من قدرات خادماتهنّ فيستغللن أوقات راحتهنّ ليطلبن منهن أخذ الكلب في نزهته اليوميّة. وكم يبدو منظر الخادمة ذا مستوى راق وأنيق وهي تتنزّه مع الكلب على الطرقات حتّى ليخيّل إلى الناظر إليها أن لا هموم لديها إلاّ الاهتمام بالحيوانات الأليفة، وأنّها لم تترك بلادها وعائلتها وأطفالها إلاّ لتلاعب الكلب الظريف إلى جانب الطريق الآمن والنظيف.
ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، لا بأس إن أشرت إلى حادثة جرت أمام شقيقتي وتدخّلت فيها بشكل لاشعوريّ وتدلّ كيف نربّي أبناءنا على "احترام" من يساعدنا ويسهر على خدمتنا. ففي مناسبة عيادتها أحد المرضى في المستشفى، سمعت شقيقتي وهي تمرّ في المدخل الرحب، صبيًّا لا يتجاوز الثامنة من العمر يقف بالقرب من أمّه وينادي بصوت مرتفع ينقصه التهذيب واللياقة أحد العاملين في المستشفى وهو من جنسيّة أفريقيّة ويأمره بصوت فيه قحة وسخرية وادّعاء غضب بتنظيف الأرض جيّدًا. وكانت أمّه تبتسم له فخورة بنباهته وذكائه. فما كان من شقيقتي، وهي عادة لا تتدخّل في ما لا يعنيها، إلا أن توجّهت إلى الصبيّ وعلى مسمع من بعض الحاضرين طالبة منه بحزم أن يحترم الآخرين وألاّ يكون قليل التهذيب.
وفي مناسبة الكلام عن الأعمال المنزليّة، لا بأس من الإشارة إلى حديث تلفزيونيّ لأحد رجال الدين المسيحيين، قال فيه إنّه سمع في أحد الإعلانات خبرًا عن آلة منزليّة تخفّف الأعباء عن المرأة العصريّة "وتحرّرها" (يجب أن تتوجّه الإعلانات إلى الخادمات لأنّهنّ هنّ اللواتي يستعملن الآلات المنزلية ومساحيق التنظيف وحفاضات الأطفال وما إلى ذلك). واستوقفت رجل الدين كلمة "تحرّرها" وتساءل: هل كانت جدّاتنا وأمهاتنا أسيرات عبدات مقيّدات حين كنّ ينصرفن بحبّ وعاطفة إلى معالجة شؤون المنزل من غسل وكيّ وطبخ؟ وهل تحرّر المرأة يعني أن تعمل الآلات والخادمات ما كان عليهنّ القيام به كربّات منازل لينصرفن إلى النوادي الرياضيّة ولعب الورق والصبحيّات النسائيّة والثرثرة؟
في الواقع لا أعرف عدد النساء العربيّات اللواتي يستغللن الوقت الذي وفّرته الآلات والخادمات لقراءة كتاب مهمّ أو لممارسة هواية تحفّز الذكاء والخلق والإبداع أو لمشاهدة فيلم ذي مغزى وموضوع أو للبحث عبر الإنترنت عن المفيد والمثقّف. ولكن ما أشهد عليه في مجتمعي وما أعرفه عن المجتمعات الأخرى المجاورة لا يبشّران بالخير.
ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، لا بأس إن أشرت إلى حادثة جرت أمام شقيقتي وتدخّلت فيها بشكل لاشعوريّ وتدلّ كيف نربّي أبناءنا على "احترام" من يساعدنا ويسهر على خدمتنا. ففي مناسبة عيادتها أحد المرضى في المستشفى، سمعت شقيقتي وهي تمرّ في المدخل الرحب، صبيًّا لا يتجاوز الثامنة من العمر يقف بالقرب من أمّه وينادي بصوت مرتفع ينقصه التهذيب واللياقة أحد العاملين في المستشفى وهو من جنسيّة أفريقيّة ويأمره بصوت فيه قحة وسخرية وادّعاء غضب بتنظيف الأرض جيّدًا. وكانت أمّه تبتسم له فخورة بنباهته وذكائه. فما كان من شقيقتي، وهي عادة لا تتدخّل في ما لا يعنيها، إلا أن توجّهت إلى الصبيّ وعلى مسمع من بعض الحاضرين طالبة منه بحزم أن يحترم الآخرين وألاّ يكون قليل التهذيب.
وفي مناسبة الكلام عن الأعمال المنزليّة، لا بأس من الإشارة إلى حديث تلفزيونيّ لأحد رجال الدين المسيحيين، قال فيه إنّه سمع في أحد الإعلانات خبرًا عن آلة منزليّة تخفّف الأعباء عن المرأة العصريّة "وتحرّرها" (يجب أن تتوجّه الإعلانات إلى الخادمات لأنّهنّ هنّ اللواتي يستعملن الآلات المنزلية ومساحيق التنظيف وحفاضات الأطفال وما إلى ذلك). واستوقفت رجل الدين كلمة "تحرّرها" وتساءل: هل كانت جدّاتنا وأمهاتنا أسيرات عبدات مقيّدات حين كنّ ينصرفن بحبّ وعاطفة إلى معالجة شؤون المنزل من غسل وكيّ وطبخ؟ وهل تحرّر المرأة يعني أن تعمل الآلات والخادمات ما كان عليهنّ القيام به كربّات منازل لينصرفن إلى النوادي الرياضيّة ولعب الورق والصبحيّات النسائيّة والثرثرة؟
في الواقع لا أعرف عدد النساء العربيّات اللواتي يستغللن الوقت الذي وفّرته الآلات والخادمات لقراءة كتاب مهمّ أو لممارسة هواية تحفّز الذكاء والخلق والإبداع أو لمشاهدة فيلم ذي مغزى وموضوع أو للبحث عبر الإنترنت عن المفيد والمثقّف. ولكن ما أشهد عليه في مجتمعي وما أعرفه عن المجتمعات الأخرى المجاورة لا يبشّران بالخير.
وفي المناسبة لا أفهم لماذا تتكلّم النساء عن الأعمال المنزليّة باشمئزاز كأنّ في الأمر إهانة أو مذلّة. فهل من المهين أن تغسل الواحدة منّا ملابس من تحبّ أو تكوي قمصانه أو تحضّر له الطعام؟ وهل مذلّ أن تمارس الأعمال المنزليّة كرياضة شيّقة تحرّك الجسم وتضفي على المنزل لمسة خاصّة من صاحبته؟ طبعًا أنا لا أدعو المرأة لكي تكون خادمة عند أبيها أو أخيها أو زوجها أو ابنها، لا بل على الجميع النظر إلى الأعمال المنزليّة من تنظيف وعناية وترتيب وتنسيق كنشاط عائليّ يسمح للأفراد على اختلاف أعمارهم باستنباط الأفكار التجميليّة التزينيّة والشعور بالانتماء إلى مكان اسمه "البيت" وهو ليس فندقًا نعود إليه ليلاً لننام أو مطعمًا نقصده لنأكل. ولا أدعو كذلك لكي تكون الأعمال المنزليّة عبئًا يعيق المرأة عن ممارسة عملها خارج المنزل أو يمنعها عن النشاطات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وسواها، بل ادعوها إلى استغلال وجود الآلات والمساعِدات للاستفادة من الوقت في ما يضيف إلى شخصيّتها ويفيد مجتمعها دون أن تنسى أنّها "سيّدة البيت".
إنّ أجمل قصائد الغزل قد تتكوّن ونحن نهتمّ بأغراض من نحبّ، وأطرف الأفكار قد تخطر على بالنا ونحن منصرفات إلى ترتيب البيت وتنسيق الأثاث فيه ، وأكثر المواضيع أهميّة قد تفاجئ فكرنا ونحن منهمكات في تحضير الطعام أو إعداد المائدة أو ريّ المزروعات ما دامت كلّ هذه الأعمال لا تتطلّب جهدًا فكريًّا خاصًا. ولا ننسى أنّ الطبّ بشقّيه الحديث والتقليديّ يدعو إلى الحركة "التي فيها بركة" كما نقول في كلامنا العاميّ. ولا نتحدّث هنا طبعًا عن تربية الأولاد لأنّها شأن مقدّس له طقوسه ودروسه ومتعته ونظامه وليس من الأعمال التي نكلها إلى الخادمات والمساعدات.
للكاتب اللبنانيّ الكبير مارون عبّود قصّة جميلة ذات جزءين عن سيّدة اسمها أم نخّول ورد ذكرها في كتابه الرائع "وجوه وحكايات". وفي القصّة أن أم نخّول امرأة نشيطة تعمل في الأرض وتعيش مع عائلتها من خيراتها. ويخبرنا الكاتب نقلاً عن أم نخّول عن أنواع الأعمال التي تقوم بها مع زوجها وأبنائها وهي أعمال لا تعدّ ولا تحصى، تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى ولا تنتهي مع حلول الظلام، ولا يوقفها مطر أو تبطئها شمس وهي أعمال تتنوّع بين الزراعة والحصاد والقطاف والعناية بالحيوانات وتحضير المؤونة والثياب والأثاث وما إلى ذلك. ومع ذلك فأمّ نخّول لم تصب بانهيار عصبيّ بسبب الإرهاق ولم تتناول المهدّئات ولم تكن بدينة تحتاج إلى رياضة وشفط دهون، ولم تعان من الفراغ العاطفيّ ولا من الملل والرتابة، ولم يكن عندها خادمة تأخذ الحيوانات في نزهات يوميّة. لقد كانت امرأة سويّة تمارس الحبّ وتنجب الأولاد وتعمل في الأرض والبيت بلا تردّد أو تذمّر. ومع ذلك فلم تكن خاضعة أو خانعة أو أسيرة أو مظلومة بل يؤكّد مارون عبّود أنّ الناس كانوا يضربون المثل بها وفي ذلك يقول: "سمعت باسم أمّ نخّول وأنا ابن خمس، فكنت أكبر ويكبر معي. إذا دبّرت امرأة تدبيرًا فيه صلاح لعيلتها نوّهوا باسمها قائلين: عاشت أم نخّول. وإنّ عزّ شيء في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا: هذي أم نخّول ثانية. وإن مرّت على الطريق امرأة مترجّلة لا تبالي بمن يتشمّسون قدّام الأبواب، تنحنحوا وتغامزوا قائلين: إحم...أمّ نخّول. وهكذا انطبع الاسم في ذهني كالأبانا والسلام. فالمرحوم، على قلّة تقديره للمرأة، كان يلقّبها أخت الرجال فيُحفظ أمي ولا يبالي، بل يصبّ النفط على النار فيقول: آه على امرأة مثلها".
ليس المطلوب أن يغضب هذا النوع من الكتابات بعض النساء ويرضي بعض الرجال، مع العلم أن لا أحد يسعى إلى كلا الأمرين، بل المطلوب إعادة النظر في مفهوم الحريّة التي ندّعي أنّنا نطالب بها أو ندعو إليها. فالحريّة تبدو اليوم عند كثير من الشابات والنساء (والرجال متواطئون في هذا الشأن) انفلاتًا أخلاقيًّا وعريًا جسديًّا وفراغًا روحيًّا وجمودًا فكريًّا. والمؤسف فعلاً أنّ الردّ على كلّ ذلك يجنح نحو التزمّت والتقوقع والانعزال والالتزام الأصوليّ المتشدّد كأن لا خيار آخر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق