لا أذكر أنّي تخلّصت من كتاب.
ولكن دائمًا هناك مرّة أولى.
والمرّة الأولى كانت صعبة، غير أنّ الأمر لم يعد يحتمل التأجيل. فالمنزل (لا بل منازل إخوتي وأخواتي)لم يعد يتّسع لمزيد من الكتب، وصار من الواجب أن أعيد ترتيب مكتبتي الخاصّة مبقية فيها على ما يجب الاحتفاظ به، متخلّصة ممّا لن أعود إليه مهما كلّفني الأمر.
وهكذا اكتشفت أنّ التخلّص من الكتب ليس أمرًا سهلاً، مهما تدنّت قيمة بعضها أو عتق طرازها أو بهتت موضوعاتها. وكان لا بدّ من توزيع الكتب على فئات أربع: واحدة تضمّ الكتب القيّمة التي لا غنى عنها في كلّ مكتبة وتعتبر مراجع حيّة لا يمكن التعاطي بالشأن الأدبي من دونها كالدراسات والمعاجم وكتب الدين والفلسفة والتاريخ والعلوم. وفئة تضمّ الكتب التي من الممتع العودة إليها بين الحين والآخر لأنّني أجدها جديدة كلّ مرّة أعيد قراءتها، كأنّني لم أقرأها قبل الآن، أو كأنّني لم أنتبه إلى بعض ما ورد فيها قبل هذه القراءة كالشعر والرواية.
الفئة الثالثة تحتوي على الكتب التي لها قيمة أدبيّة عند سواي، غير أنّني لن أعود إليها بالتأكيد لأنني لم أستفد منها ولم أستمتع بها عندما قرأتها في المرّة الأولى، إلا أنّها نالت شهرة ما، وأجريت حولها بعض الدراسات، وقد تجد من يعجب بها إن وهبتها إلى مكتبة عامّة أو قدّمتها إلى من يهوى قراءة أي شيء. ومن المؤسف أنّ هذه الفئة المخادعة لم تقدّم لي فكرة أو معلومة أو صورة أستطيع أن أستعيدها بعد إغلاق دفتّي كتاب منها، بل حلّ فراغ هائل وشعور بالإحباط وخيبة الأمل.
أمّا الفئة الرابعة ففيها الكتب التي يخجلني وجودها على رفوف المكتبات، وأشعر بالأسى في نفسي كلّما نظرت إليها وتذكّرت الأشجار المسكينة التي قطعت لتصير ورقًا تكتب عليه مثل هذه الكلمات، كما أشعر بالندم على المال الذي دفعته ثمنًا لها وعلى الوقت الذي أهدرته قبل أن أكتشف أنّها لا تصلح إلا للرمي في سلال المهملات. وتضمّ هذه الفئة بعض الروايات المملّة التي تجترّ الكلام بلا هدف وبعض الدواوين المنظومة بلا شعر أو إحساس وبعض الدراسات السخيفة وبعض الكتب التي اضطررت إلى شرائها تلبية لدعوة محرجة إلى حفلة توقيع تجاريّة، ولم أفعل كسواي من الذين يرمونها عند الخروج من الصالة التي جرى فيها التوقيع، بل قرأتها ولم أستطع رميها على عادتي في احترام الكتب وتقديرها.
وللمرّة الأولى في حياتي، أخذت كيسًا كبيرًا ورميت فيه كل كتب الفئة الرابعة لأحوّلها إلى معامل تدوير الورق، تاركة بذلك المجال لكتب الفئات الأخرى كي تتنفّس في انتظار كتب جديدة قيّمة تضاف إلى جانبها. وأخذت في المقابل عهدًا على نفسي برمي أي كتاب لا يصلح للاحتفاظ به، مباشرة بعد قراءته والحكم على مستواه، من دون التأثّر بالمقالات التي تكتب عنه في الصحف والمجلاّت والتي تتحكّم في بعضها العلاقات الشخصيّة والخدمات المتبادلة.
حاولت وأنا أعيد تنظيم مكتبتي أن أضع رقمًا معيّنًا لعدد الكتب التي يجب أن أحتفظ بها ولا أتخطّاه مهما كان الثمن، إلاّ أنّني فشلت. فكلّما وضعت رقمًا، وجدت أنّي سأظلم نفسي إذا تخلّيت عن الكتب التي شملها قرار الإبعاد. وفضّلت تأجيل التنفيذ إلى مناسبة أخرى، فالخطوة التي أقدمت عليها هذه المرّة كانت جريئة بالنسبة إليّ، وشجاعة نظرًا إلى شغفي بالكتب. ويجب ألا أجبر نفسي على خطوة أكثر صعوبة قبل أن تعتاد عيناي النظر إلى رفوف فقدت ازدحام الكتب طولاً وعرضًا على رفوفها التي لو لها ألسنة لصرخت من ثقل الحمل.
هناك تعليق واحد:
أيام الدراسة والجامعة كان حالي مع الكتب كقول الشاعر:
تكاثرتِ الظباءعلى خُراشٍ / فما يدري خراشٌ ما يصيد
وأنا اليوم كما تقولين..وإن حالي مع كتبي، يا ماري، لتشبه حال أبي نواس حين نُصِح بالحج ..
وتريني أقرأ كلامك وأضحك من قلبي. الله يعافيك ويبارك فيك ولا يحرم قراءك من خاطرك الحلو وروحك الفطنة.
إرسال تعليق