هيروشيما
( من أرشيفي في صحيفة الرأي العام الكويتيّة - بعض الموضوعات يبقى ولو تغيّرت الأسماء والأماكن والتواريخ، الخوف أحد هذه الموضوعات)
*******
ما هو الموضوع الذي يستحقّ الكتابة في مثل هذه الليلة من الترقّب؟
عليّ أن أسلّم مقالتي يوم غد الجمعة أي بعد اليوم الذي سيرفع فيه القاضي ديتليف ميليس تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدّة. ويوم الاثنين ستصدر المقالة فهل ستكون قد سبقتها الأحداث وتخطّتها الظروف أم أن ما نشعر به نحن اللبنانيين الليلة سيرافقنا طويلاً؟
الجيش منتشر في كلّ مكان، والقوى الأمنيّة في حالة استنفار وتأهّب، والطرقات خالية تقريبًا من السيّارات، وبعض الأهل يفكّر في عدم إرسال أولاده إلى المدرسة غدًا. الجميع خائف. ممّ؟ لا أحد يستطيع تحديد أسباب الخوف أو موجباته. ومع ذلك فالخوف سيّد الموقف.
أنا أنتمي إلى جيل ألف الخوف منذ بداية تكوّن وعيه. خفنا من الموت والإعاقة والتشريد والذبح على الهويّة. خفنا على مستقبلنا وأيّامنا الآتية، خفنا على وطننا، خفنا من الهجرة، خفنا من الغربة. ولكن عندما أسمع الآن التلاميذ يترقبّون توتّر الأوضاع وتدهورها لكي يتوقّفوا عن الذهاب إلى المدرسة، وعندما أسمع أنّ دور النشر تنتظر نتائج تقرير ميليس كي تتابع طبع الكتب قبل معرض الكتاب المنتظر في تشرين الثاني، وعندما أسمع كيف هرعت النساء إلى المخازن لتأمين المؤونة، والرجال إلى محطّات البنزين لتخزين المحروقات، عندما أسمع كلّ ذلك، تعود بي الذاكرة إلى خوفنا القديم.
من لا يقيم في لبنان الآن لا يستطيع أن يفهم حالة الانفصام التي يعيشها مجتمعنا: شباب وصبايا لا يعنيهم إلاّ هدوء الأحوال ليتابعوا السهر في المرابع الليليّة، وشباب وصبايا في المقابل يريدون أن تنفجر الأوضاع وتبدأ الحرب لتصفية حسابات وللانتهاء من حالة الترقّب التي نمرّ فيها.
في ظلّ عودة شبح الخوف، وفي وقت ينتظر الجميع تقريرًا قد يقرّر مصير لبنان، ماذا نكتب؟ ومن يقرأ؟ وهل تغيّر الكتابة والقراءة شيئًا؟
سألت إحدى الصديقات التي عادت إلى لبنان خلال هذه الفترة: كيف تعودين الآن والناس يبحثون عن وسيلة لمغادرة البلد؟ قالت لي: إخوتي وأهلي هنا، فليحصل لي ما سيحصل لهم.
ناس آخرون متفائلون يقولون: لن يحدث شيء، وكلّ الإشاعات لا علاقة لها بالواقع.
في مثل هذه الأجواء، تبحث عن الأهل، عن الأصدقاء، تستعيد رغبتك في الصلاة، تريد أي دفء يبعد عنك برودة شهر تشرين الآتية باكرًا مصحوبة بالقلق والتوتّر. وأحيانًا كثيرة لا تجد أحدًا.
بعد الحرب اللبنانية، كتبنا الكثير عن غياب العلاقات الإنسانيّة حين حلّ السلم.
كتبنا عن التنافس والحسد اللذين أخذا مكان خوف الواحد منّا على الآخر من قذيفة أو رصاصة أو حاجز طيّار.
كتبنا عن السهرات في الملاجئ، وتقاسم الرغيف والشمعة وقنينة الماء.
كتبنا عن الإسراع لتفقّد الجرحى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النار والسرقة والمصادرة.
اليوم تعود هذه الذكريات، لا لأنّنا نريد عودة الحرب، بل لأنّنا نفتقد العلاقات الإنسانيّة، ونخاف أن يعود الخوف، ونخشى ممّا نسمعه في أصوات بعض الشباب من رغبة في تجربة الحرب.
نحن جيل الخوف. نخاف من الأمل، ولا نطمئنّ إلى سماع الوعود، ولا ترتاح نفوسنا إلى تصريحات تعد بغد أفضل.
نحن لم نسافر ولم نأخذ جنسيّات أجنبيّة.
نحن لم نحارب ولم نسأل من كان على حقّ ومن كان على خطأ لأننا اعتبرنا الحرب نفسها خطأ.
نحن لم نستفد من أموال الدولة ولم نسرق ولم نقطع العلاقة مع من كان من غير ديننا.
نحن لم نقف على الحواجز ولم ننتم إلى أحزاب تمارس السرقة والتجارة أكثر مما تمارس عقائدها.
نحن لم نتعامل مع أجهزة المخابرات، ولم نسع إلى المراكز.
نحن خفنا على من نحبّ.
نحن خفنا على الوطن.
نحن خفنا على أنفسنا.
نحن خفنا على لقمة عيشنا.
نحن بقينا نذهب إلى عملنا ولو تحت القذائف لأنّنا اعتبرنا أنّ العمل هو خير ما نفعله في سبيل الوطن.
نحن دفعنا الثمن من كرامتنا على الحواجز إلى أيّ طرف انتمت لأننا لم نكن محسوبين على أحد من الأقوياء والمتنفّذين.
ولذلك نحن نعرف أكثر من سوانا ماذا يعني أن يسود الخوف في الشارع اللبنانيّ. وأن يعود القلق وأن يكون المصير غامضًا. وأن نتتظر.
الحاجة إلى الحبّ الآن أكثر إلحاحًا من الكتابة عنه، والبحث عن صديق أكثر دفئًا من إطلاق النظريات حول موضوع الصداقة. والكتابة عن الخوف قد تطرد الخوف.
الخميس مساء، والقاضي ميليس سلّم تقريره. والاتصالات الهاتفيّة لا تنقطع بين الناس المتسائلين المترقبّين.
الاثنين صباحًا. هل سأسخر من مخاوفي وذكرياتي. أرجو ذلك.