فيلمون وهبي |
الجنون من يدري على مسافة لحظة لحظتين
ملحق النهار – السبت 3 تمّوز 1999
(5)
مخّول الكبير ومخّول الزغير ولولو السويعتيّة
في مسرحيّة "جبال الصوّان" يلعب فيلمون وهبي دور "نعّوم
الهبيلة" الرجل الساذج الذي يصرخ بما لا يجرؤ الآخرون على الهمس به، وحين
أجبره المحتلّون مع غيره من الناس على الاحتفاء بفاتك المتسلّط أعلن نعّوم أمام
الحاكم المتباهي، أنّه ومن معه أُرغموا على المجيء، فيحاول المرافقون الاعتذار
مبرّرين بأنّ نعّوم أهبل، فيقول لهم فاتك: وجايبين هبيله يرحّب فينا؟ فيردّ نعّوم:
ليش اللي فيه عقل بيجي؟ وفي مشهد آخر، يعلن نعّوم حبّه لجميلة بالشعر والكلام
المنظوم فتدهش جميلة وتتساءل: شاعر كمان؟ فيقول لها: فكرك حدا شاعر قدّ الهبيله؟
ثمّ تقول له إنّ الأعداء كثر وهم يراقبون الجميع، فيجيبها: الهبيله ما بيهمّو،
فلتان من المراقبة.
يا إمّي دولبني الهوا |
وفي مسرحيّة "دواليب الهوا" تبدو شخصيّة مخّول بريئة إلى حدّ
السذاجة وربّما ساذجة إلى حدّ البراءة، وعندما تعاتبه حلا (صباح) لأنّه قَبل بحرق
القصب الذي يريدون تصنيعه في "دواليب الهوا" يعتذر ويلوم نفسه لأنّه
اقتنع من "المجرمين" الحقيقيّين. ويقول: "تفو عليك يا مخّول
الكبير، وتسلم تسلم يا مخّوا الزغير. وفي اسكتشات الرحابنة تتكرّر شخصيّتا مخّول
وسبع كأنّ الرحبانيّين اكتشفا أنّ هذه الصورة (السذاجة) ضروريّة ليكتمل مشهد
القرية كما عرفاها: المختار والناطور والسكّير والراعي والبيّاع...والهبيلة!
يحكون في بعض القرى أنّ ثمّة عائلات مكتوب عليها أن يكون في جيل من أجيالها
إمّا مجنون وإمّا ساذج بسيط. ويخبرون عن عشرات الشخصيّات التي ألهمت كبار المسرحيّين
والممثّلين أدوارًا تعكس جنون واحد وبساطة تفكير آخر، وتكبّر صور غرابتهم
واختلافهم، فيصيرون رموزًا يضعون على ألسنتها كلّ ما يريد المجتمع قوله أو
الاعتراض عليه.
كنّا صغارًا حين قرأنا مجموعة "قصص لبنانيّة" لكرم البستاني،
ودمعت عيوننا التي لم تكن رأت شيئًا من هذه الدنيا بعد، تأثّرًا ببراءة نعمان
وطفولته وبساطة قلبه. ونعمان، بطل قصّة "البسيط القلب" شابّ يصدّق كلّ
ما يقال له ويأخذه حرفيًّا. وهذه السذاجة جعلته يدعو الطفل يسوع في الصورة إلى
تناول العشاء معه، فلبّى الطفل الدعوة، ولأنّ السماء لأنقياء القلوب صار نعمان
قدّيسًا.
يردّ الناس أسباب هذه السذاجة (وبعيدًا عن العلم) إلى طبع يرثه الإنسان منذ
الولادة، أو إلى إعاقة عقليّة ناتجة من خلل ما، أو إلى تخلّف تتسبّب به حرارة
مرتفعة في الجسم في زمنِ كانت طرق العلاج بدائيّة. وغالبًا ما يترافق هذا التخلّف
مع إعاقة جسديّة أو توتّر عصبيّ أو تأتاة في الكلام. وعلى عكس الجنون الذي لا يمنع
الناس أنفسهم أمامه من التعليق أو الضحك أو الخوف، فإنّ التخلّف العقليّ يحظى
بالشفقة، فتمنع الأمّهات أولادهنّ من السخرية من هؤلاء المرضى: لا تضحكوا عليهم
وإلّا بتصيروا مثلهم. وإذا كانت أسباب هذه الإصابات العقليّة والنفسيّة مرضية،
فإنّ الجنون كما تسمّيه العامّة وتحلّل أسبابه، ناتج عن صدمات عاطفيّة أو خلافات
عائليّة. ولكن هذا لا يمنع أن يكون وراءه أيضًا أسباب أخرى كالاضطهادات الدينيّة
والانهزام الفكريّ أو السياسيّ أو انهيار القضايا الكبرى وخسارة الأرض والوطن. وفي
قصّة "خليل الكافر" لجبران وجه من وجوه الضرر الذي تلحقه بعض السلطات
الدينيّة عن جهل وتخلّف، ويقال إنّها مستوحاة من معاناة أسعد الشدياق شقيق أحمد
فارس الشدياق العلاّمة الأديب.
وفي رواية "معبر الندم" لـأحمد علي الزين ضحيّتان، إحداهما
الدكتور الياس الرملي الذي "أصيب بخيبة أمل هائلة بعد سقوط العالم
الاشتراكيّ، وأحرق مكتبته التي كانت تضمّ حوالى مئة ألف مجلّد في الفلسفة
والنظريّات الماركسيّة وكتب مذكّرات لقادة العالم ودواوين الشعر وأكوامًا من
الجرائد والمحاضرات التي كان يلقيها زمن الثورة، لقد استقال من الجامعة واشترى
بتعويضه قطيعًا من الغنم ولجأ إلى الجرد" (ص110). والضحيّة الأخرى راشد
الحيفاوي الذي مذ ترك فلسطين وهو يرفض النوم داخل المنزل الذي هرب إليه أهله
"كان يعرف أنّه في بلد تسمّى "خربة النواح" وأنّ حيفا بعيدة، لكنّه
ما كان يدرك أنّ هذا البعد مضت عليه سنوات طويلة. كان يظنّ أنّ الحرب وقعت لتوّها
ويمسح رأسه براحته معتبرًا أنّه ما يزال ينزف" (ص172). واستقدم أهل الخربة
وأهل راشد الدكتور نادر ماضي لعلّه يجد العلاج الذي يعيد راشدًا إلى رشده. ولكنّ
الطبيب فوجئ بسؤال راشد له: "لشو يكبر البني آدم؟" ويصمت الدكتور
مفكّرًا، فيقول أبو راشد أنّ ابنه كان من المتفوّقين في العلم في حيفا، فيردّ
الطبيب: "ما زال متفوّقًا علينا" (ص186). ويصير الطبيب وراشد صديقين،
يأتي الواحد منهما إلى الآخر من عالمه الخاصّ لعلّه يجد عنده الجواب.
لولو السويعتيّة نطّرونا كتير |
والطبيب النفسيّ (نبيل أبو مراد) يصرخ فرحًا في مسرحيّة "لولو":
قوليلهن قوليلهن!
يوجّه كلامه إلى الفتاة التي يريد المجتمع التخلّص من خوفه منها، من الظلم الذي ألحقوه بها، وذلك باتّهامها بالجنون، وتقول له "لولو" البنت السويعاتيّه (فيروز) كما يلقبّونها، وبعد أن يبرّئها من التهمة: "وإنت كمان مش مجنون!"
وفي هذه المسرحيّة بالذات، مجنون معترف به رسميًّا، اسمه رعد (بيار جماجيان)، تستغلّه السلطة للإيقاع بالعاقلين. يهدّد ويتوعّد، ويخاف الناس لسانه، ومع ذلك فإنّ رعدًا يتّهم لولو بالجنون، ويقول لنايف بو درع (جوزف ناصيف): "رح خبّر مرتك إنّك بتحبّ الخوته (المجنونة)، والبلد ما بتساع اتنين خوت". (يتبع)
قوليلهن قوليلهن!
يوجّه كلامه إلى الفتاة التي يريد المجتمع التخلّص من خوفه منها، من الظلم الذي ألحقوه بها، وذلك باتّهامها بالجنون، وتقول له "لولو" البنت السويعاتيّه (فيروز) كما يلقبّونها، وبعد أن يبرّئها من التهمة: "وإنت كمان مش مجنون!"
وفي هذه المسرحيّة بالذات، مجنون معترف به رسميًّا، اسمه رعد (بيار جماجيان)، تستغلّه السلطة للإيقاع بالعاقلين. يهدّد ويتوعّد، ويخاف الناس لسانه، ومع ذلك فإنّ رعدًا يتّهم لولو بالجنون، ويقول لنايف بو درع (جوزف ناصيف): "رح خبّر مرتك إنّك بتحبّ الخوته (المجنونة)، والبلد ما بتساع اتنين خوت". (يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق