الجمعة، 5 يناير 2018

الفصل الثاني من روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا"


تعرّفت زاد إلى هذه المرأة حين خضعت بشكل طارئ لجراحة استئصال الزائدة الدوديّة، وكانت هي الممرّضة المساعدة في غرفة العمليّات. سألتها بضعة أسئلة قبل أن يفعل البنج العموميّ مفعوله. طبعًا لم تتذكّرها في اليوم التالي حين دخلت غرفتها لتطمئنّ إلى حالها. ذكّرتها بمن تكون وأخبرتها أنّها كانت تشرب القهوة مع والديها في كافيتريا المستشفى، وأتت لتلقي عليها التحيّة. شكرتها المريضة بكلمات قليلة لا توحي بأنّ امرأة في وضعها،  أي خارجة من غرفة العمليّات في اليوم نفسه وممدّدة في السرير غير قادرة على الحراك وتشعر بالغثيان المقيت، ترحّب بأن تباشر حديثًا طويلاً وهي ما زالت تحت تأثير التعب من نوبات الألم التي سبقت الخضوع للجراحة، ومن آثارها. غير أنّ الممرّضة التي تحبّ الكلام والمزاح لم تنتبه إلى أنّ المريضة تريد أن ترتاح وتغفو، وبدا واضحًا أنّ عملها في التمريض خلال الحرب جعلها لا تقيم اعتبارًا كبيرًا لجراحة بسيطة كاستئصال الزائدة، وهي التي تشارك كلّ يوم في جراحات صعبة ودقيقة يتخلّل أكثرها بتر أعضاء ونزيف دماء وصراخ الأطباء على الممرّضات. أوجيني والدة زاد التي رافقت الممرّضة إلى الغرفة لاحظت انقباض وجه ابنتها وتبرّمها بحديث المرأة فاصطحبتها إلى الخارج بطريقة لبقة، قبل أن تقول زاد ما يُحرجها وضيفتها. فأوجيني تعرف ابنتها جيّدًا، وتعرف أنّها لن تتردّد في إبعاد من يزعجها مهما كلّف الأمر.
يسهل على أوجيني أن تقيم صداقات حيث تضعها الظروف، وأنطوان زوجها بارع كذلك في العلاقات العامّة، ولا يقفل باب الحديث في وجه أحد مهما كان تعبًا أو متضايقًا. وفي حين كان الوالدان يهويان جمع الأصدقاء والمعارف والجيران كما يهوى سواهما جمع الطوابع أو الفراشات كانت هي على عكسهما، لا طاقة لها على الناس، وتحتاج إلى وقت طويل قبل أن تثق بأيٍّ كان أو أن تمدّ حديثًا طويلاً مع أحد. لذلك لم تستغرب الفتاة المريضة الأمر حين عادت والدتها بعد وقت لتخبرها ببعض التفاصيل عن حياة الممرّضة. وفهمت أنّها تمضي أكثر وقتها في المستشفى وتنام فيها لأنّ بيتها في منطقة مواجهة لخطوط التماس، ولا تستطيع الوصول إليه بسبب القنّاصة على السطوح المقابلة. قالت زاد وهي ترغب في الاستسلام للنوم:
"لذلك تحبّ الثرثرة والحكي مع الغرباء، ولكن أنا ما ذنبي؟"
انزعجت أوجيني من تعليق ابنتها الذي وجدت فيه قسوة غير مبرّرة على المرأة المسكينة. ولكنّ الفتاة المتألّمة لم يعنها في هذا الوقت ما تشعر به والدتها ولم ترغب في معرفة تفاصيل أخرى، فهي تريد أن تعود إلى النوم وليست مستعدّة للمشاركة في نقاش عقيم، فأغمضت عينيها ما جعل الوالدة تصمت على مضض.
خرجت زاد من المستشفى من دون زائدتها الدوديّة، وخرجت أوجيني وقد ازداد عدد أصدقائها بالممرّضة وببعضٍ من ذوي المرضى الذين كانوا يتجمّعون في الكافيتريا ليشربوا القهوة ويتابعوا الأخبار عبر جهاز الترانزيستور الذي كانت تحمله إحدى الأمّهات. وهي امرأة مرهقة وخائفة طوال الوقت، لا تذهب إلى بيتها وتبقى مع ابنتها الصغيرة التي أصيبت إصابات بالغة بشظايا قنبلة، ولا تفارق الراديو لأنّها تريد أن تطمئنّ في كلّ دقيقة إلى أنّ المنطقة حيث بيتها وأولادها الآخرون لا تتعرّض للقصف أو القنص.
مضى وقت طويل قبل أن تنضمّ زاد إلى جلسات والدتها وجولييت التي صارت تأتي من المستشفى لتتناول الطعام عندهم حين يسمح لها عملها ومزاج المقاتلين بذلك. كانت تريد أن تتذوّق طعامًا غير طعام المستشفيات الـ"بلا طعمة"، كما برّرت زياراتها المتكرّرة قبل أن تضيف:
"من حسن حظّي أنّ بيتكم قرب المستشفى".
ومع ذلك كانت تسمح لنفسها بالاعتراض على طريقة أوجيني في إعداد الطعام، ثمّ صارت تتدخّل في أمور الطبخ لتعلّم والدة زاد ما تعلّمته من أمّها التي تملك في رأيها ورأي أهل البقاع كلّهم أطيب نفَس على الأكل.
في تلك المرحلة من الحديث أخذ اسم نجلا يتردّد في بيت زاد من خلال حكايات تشبه مسلسلاً يوميًّا يتابع المشاهدون حلقاته بشغف. وحين كان أحد أفراد عائلتها يتغيّب لسبب أو لآخر، يتكفّل الآخرون بنقل ما جرى وهم يسألونه:
"ما بدّك تعرف شو خبّرتنا جولييت اليوم عن عيلتها؟"
أو حين يعود أحدهم إلى البيت ويراها جالسة إلى مائدة الطعام يبادرها مشاكسًا بأسلوب صارت تعرفه ولا تنزعج منه:
"شو في عندكن شي جديد؟ مين مات ومين بعدو طيّب؟ مين سافر ومين طلّق؟"
لمّا سمعت زاد هذا النوع من الأسئلة للمرّة الأولى خطر لها أن تكتب حكاية جولييت لتتسلّى. كان الزمن زمن حرب وموت، والدروس معلّقة، فصارت القراءة والكتابة وسيلتين وحيدتين تنقذان زاد التي تهوى المطالعة من جنونٍ يغرق فيه الجميع. فللنجاة من الحرب لا يكفي أن تختبئ في مكان آمن وتحمي جسمك من الخطر، لكن عليك أن تتلهّى بما يبعدك عن هول ما يحيط بك: لعب الورق أو الطاولة وحياكة الصوف والتطريز والتفنّن في صنع المأكولات التي لا تحتاج إلى نار أو تبريد وغير ذلك من نشاطات ما كان الناس يحسبون أنّهم سيجبرون أنفسهم على تعلّمها وممارساتها. ولكنّ الحرب لا تسأل أحدًا عن رأيه أو هواياته، بل تفرض على الجميع إيقاعها ونظامها ومواعيدها. زاد أضافت الكتابة إلى نشاطات أيّام القصف الطويلة، وقبل زمن المولّدات الكهربائيّة وفي غياب الكهرباء، وفي ضوء شمعة عاجزة عن تبديد العتمة حولها وفي داخلها بدأت تلك الفتاة تسجيل يوميّات الحرب. ويومًا بعد يوم أخذت حكايات الممرّضة تحتلّ جزءًا كبيرًا من كتاباتها كونها الحدث الغريب على رتابة أيّامهم المحكومة بالرعب والانتظار وأصوات المذيعين والمذيعات التي تُعلم الناس بأمكنة سقوط القذائف واتفاقات وقف إطلاق النار التي تسقط لحظة إعلانها. ليس هذا فقط. كان في حكاياتها مزيج من قصص الحبّ والمغامرات والإجرام والتهريب ووصف لحياة خيّل إلى زاد مرارًا أنّها تجري خارج حدود الوطن والأرض، وكان فيها شيء آخر: التحدّي لكلّ ما كانت عائلتها تمثّله من تكتّم وأسرار وقرارات تقضي بمنع الكلام مع الغرباء في الشؤون العائليّة المحرجة، فوالداها وعلى الرغم من علاقاتهما الاجتماعيّة الممتازة حريصان على التكتّم على المشاكل التي تجري داخل بيتهما، ويستطيعان تبادل الأحاديث مع الناس لساعات من دون أن يفضحا سرًّا عائليًّا واحدًا أو يعبّرا عن موقف سلبيّ واحد. أمّا المرأة الغريبة فكشفت أمام الجميع أسرار عائلتها وحكت عمّا يفترض أن يكون من المحرّمات والممنوعات، وسمحت لزاد بالذات بأن تحلم بفضح الأمور العائليّة يومًا ما فالأمر ليس سيّئًا كما علّمها والداها، والكلام عن المشاكل يريح ولو مع غرباء عابرين، بل خصوصًا مع الغرباء العابرين.
وما زالت زاد حتّى اليوم، وبعدما صارت جولييت في عالم غير عالمها، تسأل نفسها: هل ساعدت الحرب على هذا البوح؟ الحرب نفسها التي جعلت الممرّضة بعيدة عن أهلها، وقريبة من غرباء التقتهم حيث تعمل، هذه الحرب العبثيّة هل هي التي سمحت لها بالكلام قبل أن يحلّ السلام المزيّف ويسكت الجميع وهم يدّعون أنّهم يريدون أن ينسوا؟
فلمن يريد أن يكتب روايات إذًا، ليس له إلاّ الحرب، هي الوقت المناسب لجمع أكبر عدد من الحكايات التي تصلح للكتابة عنها. الحرب خزّان قصص، يتداخل فيها الماضي والحاضر ويغيب المستقبل. تستعاد الأزمنة الجميلة، دائمًا جميلة، ويقارن بها الحاضر المخيف، دائمًا مخيف، وعليها توضع الملامة وبسببها يتساهل الناس في التمسّك بالقيم. فالحرب تعلّم الناس أنّ الحياة قصيرة ومن الغباء هدرها في محاولة الفهم. لذلك انصرف أكثر الناس إلى التصرّف كأنّهم سيموتون بعد لحظات. وزاد فعلت مثلهم، فأخذت تكتب معتبرة أنّ كلّ نصّ هو بمثابة نصّ أخير سيحلّ بعده الفراغ والصمت.
حين أتت جولييت على ذكر نجلا ووردة بطريقة تثير الفضول وتلفت الانتباه بسبب الحدّة في نبرة الصوت، كانت زاد تشرب القهوة، قبل أن تنصرف إلى غرفتها للدرس، مع والدتها والممرّضة التي كانت منفعلة وغاضبة على غير عادتها. وفجأة ورد ذكر الكولونيل للمرّة الأولى أمامها، في حين بدت والدتها عارفة بقصّته. فتأكّدت زاد من أنّها وجدت أخيرًا موضوعًا مثيرًا في أخبار تلك المرأة يلهي تفكيرها بمتابعته حين يسقط أحد اتفاقات إطلاق النار. ولكنّها لم تقتنع فعلاً بأنّ صديقة العائلة محقّة في قولها إنّ حكايتها تستحقّ أن تكون فيلمًا أو مسلسلاً تلفزيونيًّا إلاّ حين التقت نجلا الطويلة القامة ووردة النحيلة الصغيرة، وبدا لها أنّ على أمينة رزق أن تؤدّي دور نجلا، في حين لا يليق دور وردة إلاّ بفاتن حمامة. ولن يعبّر عن شخصيّة جولييت بصدق إلاّ زهرة العلا التي اعتادت في الأفلام المصريّة أداء الأدوار الثانويّة للبنت المغلوبة على أمرها والتي تستمدّ حضورها من كونها شقيقة البطلة أو صديقتها. أمّا الكولونيل فسيكون طبعًا عمر الشريف ابن تلك المنطقة الذي صار ممثّلاً مصريًّا ثمّ عالميًّا ويجيد اللغة الفرنسيّة.
يومذاك أهملت زاد دروسها وانصرفت لمطالعة رواية جديدة تقرأ سطورها بشغف في وجه الممرّضة وحركات يديها وسيكارتها التي لا تفارق يدها، عدا عن الكلمات التي تخرج تلقائيّة كأنّها قيلت قبل ذلك مئات المرّات. ومئات المرّات ستقرّر بعد ذلك أن تكتب تلك القصّة بشكل يجعلها حاضرة للنشر ما أن تنتهي الحرب. وهي تنتظر فقط أن تنتهي جولييت من الحكي لتبدأ هي بالكتابة الجديّة النهائيّة انطلاقًا ممّا دوّنته في دفاترها التي صارت تحرص على تهريبها إلى أماكن في البيت تحسبها أكثر أمانًا من سواها. ولن تعرف إلاّ متأخّرة أنّ تلك المرأة ستجد دائمًا ما تحكيه وأنّها هي من عليه أن يضع نقطة النهاية.


(أوجيني)
"الجميع يناديني أوجيني ولكن هذا ليس اسمي، عندي كثير من الأسماء حتّى أنّني لم أعد أعرف من أنا. في البداية كان اسمي بربارة على اسم جدّتي التي أحببتها أكثر من كلّ الناس، ولكن عندما أتى الفرنسيّون وقرّروا القيام بإحصاء عدد السكّان صار اسمي روزالي. تروي لي جدّتي الحكاية قائلة:
(ما زلت أذكر ذلك اليوم بأدقّ تفاصيله، وصل ثلاثة فرنسيّين ومعهم مترجم من القرية المجاورة، جلسوا كلّهم تحت العريشة، وكان الطقس جميلاً، سألوا عن أسماء الجميع وكتبوا ولا أحد منّا سألهم ماذا تكتبون. وحين وزّعوا علينا بعد ذلك هويّاتنا تغيّرت أسماء كثيرة وأنت صار اسمك روزالين وأنا أضحك على حالي كلّما لفظته، الله يلعن الفرنساويي، كانوا سود وبيض، أخدولك إسمك، وما طلعلنا منن إلاّ ماكينة خياطة عتيقة ماركة سنجر كانوا يخيّطون عليها بدلات الجنود، دفعنا حقّها وأخدناها وبعدها عنّا عم نخيّط عليها تيابنا: شراويل جدّك وصلطاتي وفساتينك).
زاد تقول إن كلمة "صلطة" غير موجودة في اللغة وتسألني من أين أتيت بها. أقول لها إنّ جدّتي كانت ترتدي فوق ثيابها نوعًا من المآزر رأيت ما يشبهه في الأفلام الأجنبيّة القديمة وترتديه الممرّضات فوق ملابسهنّ. تقول لي زاد إنّ الكلمة قد تكون أجنبيّة وتعني سلطة لأنّ المئزر يوضع في المطبخ لتحضير الطعام. والناس عندنا التقطوا الكلمة وحوّروها وفخّموا حرفه الأوّل فصارت صلطة. لا أعرف إن كانت ابنتي على حقّ، ولكنّني حين أخبرتها أنّ هذا المئزر الذي نسمّيه اليوم مريول كان اسمه في القرى المجاورة "مانتيان"، كان جوابها إنّ هذا الاسم كذلك مأخوذ من الفرنسيّة ويقصد به صيانة شيء ما والمحافظة عليه (maintien). جدّتي بربارة كانت تتكلّم الفرنسيّة وهي لا تعلم. زاد تؤكّد لي أنّ كلمات كثيرة في قريتنا نقلناها عن الفرنسيين ونحن لا نعلم وتسخر من جدّتها التي حين تغضب على أحدهم تقول له: يلعن اللي (سستمك ومنيرك) وتقول لها:
ستّي عم تسبّي بالفرنساوي؟
وحين ننظر إليها مستفهمين تقول إنّ هاتين الكلمتين فرنسيّتان وتعنيان: (ton systeme et tes manieres)
بعد خمس سنوات، غرقت أختي التي كانت أكبر منّي في البركة التي رصف والدي حجارتها قرب البيت ليجمع مياه الشتاء، هي لم يغيّر الفرنسيّون اسمها ولا أحد يعرف السبب. في الإحصاء الثاني، حين تغيّرت الهويّات من صفراء إلى خضراء، أعطاني أهلي اسم شقيقتي المتوفّاة لأنّه أسهل للفظ على ألسنتهم وهكذا صار اسمي مريم. حملت هذا الاسم حتّى رحت خطيفة مع أنطوان. والدته وجدت أنّه من الشؤم أن تحمل كنّتاها الوحيدتان الاسم نفسه، لأنّ سلفتي اسمها مريم كذلك، فصارت تناديني أوجيني على اسم جارة فرنسيّة أقامت لفترة طويلة في الحيّ حين كان زوجها الضابط في الجيش يؤدّي خدمته في الثكنة القريبة. وحين انتقلت الفرنسيّة مع زوجها تركت لي اسمها الذي صار اسمي الذي لا أحبّه".


ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.