قرأت ردّك في جريدة
"الديار"، وأثّر بي غفرانك الذي منحته لقلم الآنسة سعاد حدّاد... وعلى
أي تسامحها، ألكونها أصابت موضع الداء في بيت شبابكم فأثارت منك الغضب لتسرب أسرار
معهدكم إلى خارج أسواره؟ أم تسامحها لأنّها كشفت الغطاء عمّا كان الجميع يعتقده
مركزًا للمساعدة الصّادقة والخدمة والمحبّة؟
حضرة الأب، إذا كانت الآنسة
حدّاد من خارج البيت، فأنا من أهل المعهد ولي أكثر من صديق وصديقة يعانون الأمرّين
بين جدران معهدهم، ولولا الزّملاء والصّداقات التي خلقتها الإعاقة لرحلوا من زمان.
لهذا سمحت لنفسي بالردّ على ردّك، لعلمي أن أحدًا لن يجرؤ على ذلك خشية نظرات
الغضب والطّرد، وخوفًا من "الجواسيس" المدسوسين بينهم والمعروفين
جيّدًا.
هل تعتقد أن المعاقين ـ وكم
أكره استعمال هذه الكلمة ـ يرغبون في تمضية حياتهم عندكم بمجرّد الاستمتاع وحبًّا
بالتقوقع والأسر المفروضين عليهم خارج المجتمع؟ ولأي سبب يريدون البقاء؟ فالمعاملة
ليست كما تحاول تصويره، والممرضات في غالبيتهنّ جاهلات وغير حائزات على الشّهادات.
والطّعام يكاد يقتصر على البطاطا المسلوقة وما شابه، ولا يتغيّر إلاّ لمناسبة
العيد، أو عند تدخّل وسيط لدى الرّاهبات، أو إذا استطاع أحد المعاقين الحصول على
صداقة إحدى الممرّضات.
هل تأكل أنت والرّاهبات من
طعامهم؟ ليتك تقدّم لهم مما تأكلونه يوم الجمعة العظيمة فقط... أنا مع قرار إخراج
المعاقين إلى الحياة العامّة، ومع دمجهم في مشاكل المجتمع وأعبائه. وقد رأيت
الكثير من سلبيات تقوقعهم داخل أسوار المعهد.
ولكني أسألك، هل تعتقد حقًا
انّ الظّروف اليوم مطمئنة ومريحة لدرجة تسمح للمعاق بتحمّل أعباء الحياة، والهروب
من القصف والمعالجة في حالات الالتهاب والجروح؟
وإذا كان منزل المعاق في
الطبقة السّادسة مثلاً، ولا كهرباء دائمة، فماذا يفعل؟ سيتقوقع في زاوية من منزله
بانتظار رحمة الله ـ أو ممثّليه على الأرض من أفضالك ـ وإذا بدأ القصف، عليه أن
يصبر، أو يتمنّى قذيفة تريحه من معهدكم ومن بيته، إذ لا يوجد من ينزله طبقات
المبنى تحت القصف.
وكلّنا يعلم كيف هي بيوت
اللّبنانيين الحديثة، غرف صغيرة وأبواب ضيّقة. فكيف يعيش المعاق بين جدرانها وكيف
يتجوّل؟ هل تعتقد انّ منازل المعاقين معاهد شاسعة كالّذي تديره؟
هذا عدا مشاكل الماء
والتّنقّل على الطّرقات، وثمن الشّاش والقطن والأدوية، التي يملك المعهد الكثير
منها، من المساعدات، والتي لا يملك منها المعاق شيئًا.
وعلى ذكر المساعدات، أعتقد
انّ جولات الاستجداء التي قمتم بها في دول العالم بهدف إثارة مشاعر المغتربين، قد
جلبت المساعدات على اعتبار انّ هذا المعهد هو ملجأ المعاقين ومستشفاهم وأملهم في
ظلّ هذه الظروف. وإذا بكم ـ وبالمساعدات الماليّة المأخوذة على اسمهم ـ تبنون
وتتوسّعون... لماذا؟ لتطردوهم بحجة انّ هذا المستشفى ليس مأوى...
وأعود لأسألك: أين سيمارس
المعاق التّمارين الرّياضيّة الضّروريّة له ضرورة الأكل والدّواء؟ ولماذا لا
تعالجون إصاباتهم النّاتجة عن إعاقتهم عندكم ما دامت غرف العمليّات جاهزة منذ ثلاث
سنوات؟ لماذا تتركونهم يخاطرون بحياتهم تحت القصف للمعالجة في أوتيل ديو وغيرها؟
وإذا كان قصدكم منذ تأسيس
المعهد تحويله إلى مستشفى مؤقت لإصابات الإعاقة، فلماذا أقمتم صالة سينما كلّفت
الكثير من أموال الهبات؟
وإن ترك هؤلاء المعاقون المعهد، هل سيستمرّ
مجمّع الرّمال السّياحيّ باستقبالهم صيفًا ولو ليوم واحد؟
حضرة الأب... لا شكّ أنكم
تعتقدون انّ الحياة في لبنان مريحة وهادئة، وانّ الدولة أقامت مراكز للمعالجة
الفيزيائيّة، وانّ الطّبابة مجّانيّة، وانّ الباصات مخوّلة نقل المعاقين دون
صعوبة... لا شك انّك تعتقد ذلك وإلاّ لما كان هذا القرار...
إنّ رسالتك الإنسانيّة
والكهنوتيّة تحتّم عليك اليوم الوقوف في وجه من يريد إخراجهم من معهد إقيم على إسم
الإعاقة، بانتظار عودة الدّولة على الأقل، فيعود معها الهدوء والأمن.
وأسمح لي ختامًا بهذه
"الخبريّة": كتب رشدي معلوف في مقالة للنّهار، انّ حالات تسمّم كثيرة
ظهرت بسبب تلوّث أوعية الحليب لعدم نظافتها. هل تعرف، حضرة الأب، كيف عالجت
الدّولة هذه المسألة الخطيرة؟ لقد قامت بمنع تناول الحليب أو أكل مشتقاته... فإلى
متى سنستمرّ في معالجة الأزمات من نتائجها لا من مسبّباتها؟
إلى متى سيحرم المعاقون عندكم
من حريّة استعمال الهاتف لأنّ واحدًا منهم أساء استعماله؟ إلى متى تبقى
"الكافيتريا" حكرًا على ذوي الإمكانيّات الماديّة الجيّدة منهم؟
إلى متى يبقى التّوزيع مجحفًا
لمردود معرضهم السّنويّ الوحيد؟
إلى متى يبقى بينهم من هو
محسوب على الإدارة فلا نتكلّم أمامه في زياراتنا لأصدقائنا؟
إنّ هذه الأسئلة وغيرها
نطرحها اليوم أمام ضمائر المسؤولين في هذه الدّولة، وفي هذا المعهد، آملين أن
يقوموا بما هو ضروري للمحافظة على هذا المعهد ملجأ ولو مؤقتًا للمحتاجين إليه،
وخائفين في الوقت نفسه أن تتدخّل "المحسوبيّات" في إيذاء من تشكك
الإدارة في "عدم إخلاصه" لخيرها العميم، وشاكرين أخيرًا جريدة الدّيار
و"قلم سعاد حدّاد" اللّذين أتاحا لنا فرصة لعرض ما نعرفه عن شؤون وشجون
معهد بيت شباب للمعاقين.
ميّ م. الرّيحاني
جريدة "الدّيار"الخميس 3 أيّار 1990
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق