الأحد، 28 يناير 2018

هذا هو حبر "الدّيار" - حسين عبدالله - جريدة "الدّيار" الجمعة 4 أيّار 1990


هذا هو حبر "الدّيار"
        تحليل...
        هذه الكلمة الكذبة، التي تتنافس الصّحف على إقتنانها، وفرد صفحات كثيرة لها. والتي يدّعي القرّاء عمق ثقافتهم السّياسيّة بقراءتها والغوص في مجالها...
        هذه الأسطورة الواهمة التي يتلطّى خلفها الكثير من الأقلام والعديد من التواقيع المضيئة والباهتة، والتي تستنجد ب"المصادر المطّلعة" و"المصادر الحسنة الاطلاع" و "الأوساط العلميّة" و"الجهات المعنيّة" و"القيادي الذي رفض الكشف عن اسمه" و"المسؤول المعنيّ" و"الأوساط الشّرقيّة والغربيّة" و...
        كلّها تتلطّى خلف حائط الخيبة وتركّب جملاً غير مفيدة إلاّ في الصّرف والنّحو، وتوقّع المقال والسّلام...
        إذا كانت هذه هي الصّحافة... وتلك هي القمّة، وذلك هو الإبداع، وذاك هو النّجاح... والمقياس... فاسمحوا لي أن أنسحب من هذه المهنة، التي لم تكن يومًا مهنة، بل كانت محطّة على طريق الحوار الدّافئ بين الكاتب والقارئ، واسمحوا لي أن أترحّم على الصّحف وأن أستعملها كما يستعملها الفقراء في بلادي "حصيرة" عشاء أو غداء فقيرة...
        ولماذا هذه المقدّمة؟
        ولماذا هذا الهجوم على الصّحافة؟
        ولماذا هذا السّيل الجارف من الكلام والحبر المسنون؟
        لأنّني قرأت ببساطة رسالة "ميّ م. الرّيحاني" التي كانت بعنوان "لأنّنا في ديارنا ولسنا غرباء" والتي اتّضح لي من مضمونها انّنا نحن الغرباء عن "الدّيار" وعن ديار القلم والفكر والتّعب والسّهر الطّويل...
        والرّيحاني، غير الغريبة عن "ديارنا" التي بنيناها كلمة كلمة عندما كانت الصّحف ودور النّشر تباع وتشرى وتقدّم لها هبات ومساعدات ودولارات، وكانت "الدّيار" تصدر من عشرين مطرحًا، لأنّ مطرحًا واحدًا لم يكن يضمّنا أقلامًا وطاولات وتواقيع. ولأنّنا كنّا في شبه شقة نكتب على طاولات بعضنا البعض، وعلى ورق أسمر يشبه "ورق الزّجاج"، ونرسل المقالات والتّحقيقات للتّصوير والطّباعة في أكثر من مكان، ونكون تحت رحمة "الطّبّيع" ووفق مزاجه المعكّر على الدّوام، ونشهد ولادة قيصريّة كل صباح، ونعود لمرافقة المولود الجديد إلى السّوق، ونتابعه رحلة رحلة، ومكتبة مكتبة، لأنّ شركات التّوزيع كانت تتعامل مع المولود على انّه صحيفة وكنّا نتعامل معه ولا نزال على انّه المولود الجديد للنشء الجديد ونخاف عليه من لفحة برد...
        وكانت المنافسة على أشدّها...مع الصّحف التي شاخت سنًّا وتجربة، والتي صار الاكتفاء الذّاتي عنوانًا لها، والتي صارت تصدر في مكان واحد يشبه الواحة ومع ذلك... خاضت "الديار" المنافسة، والله وحده يعلم، مدى المشقة ومدى الرّهان الصّعب الذي قبله شارل أيوب وما يزال...
        أعود إلى "ميّ م. الرّيحاني"... التي بدأت نقدًا قدّمت العذر عنه في عنوان مقالتها، وكرّت كلماتها بادئة بشارل أيوب، ومنتقدة افتتاحيّاته التي وجدتها وجدانيّة "وإذا ما استمرّت على هذه الحال فستصبح تشبه كتابات حسين عبدالله التي تتنافى في رأيها مع كتابات رئيس التّحرير".
        شكرًا ل "مي" التي وجدت كتابات شارل أيوب قريبة من كتاباتي. وشكرًا أيضًا لأنّها ـ الكتابات ـ لا تستحق أن تكون مذيّلة بتواقيع رئيس التّحرير... وشكرًا أيضًا لغيرتها على "الدّيار" بالمقارنة مع "النّهار" ومع "السّفير"... وأيضًا وأيضًا على نصيحتها بأن نجعل الفهرس في الصّفحة الأولى حتى ندلّ القارئ على ترتيب الصّفحات... ولم يكن ينقص الرّيحاني إلاّ أن نقرأ الصّحيفة عن القارئ حتى لا يكلّف عناء القراءة ومشقّة تعب عينيه.
        وشكرًا على هجومها على الوجدانيّات الذي تناول جورج بكاسيني وكاد يتناول منزل جورج بشير الذي أصيب وتهدّم...
        وللمناسبة ... أقول للرّيحاني، انّ الوجدانيّات هي أسمى الأساليب في الكتابات...هي أرفعها وأصدقها على الإطلاق..
        أما التّحليل والمعلومات والمصادر المطّلعة والواسعة الاطلاع والحسنة والضّيّقة والعليمة والجاهلة... فهي مخابئ لا نتلظّى خلفها لأنّنا قرّرنا أن نشهر السّيف والقلم في وجه أمّيّة أخذت في الانتشار في هذا البلد المعطوب وتريدنا الرّيحاني أن نتلطّى خلف هذه المصادر لنذيع نشرة أخبار ملفقة ومعلومات ودردشة نبني عليها الآمال ولا تكون أكثر من تخيّلات وأوهام.
        وأعدك حضرة الكاتبة، بأن حبر الوجدان لن يجفّ من "الدّيار"... وأنّ التّحليلات السّياسيّة هي كذبة العصر، ونحن قرّرنا في "الدّيار" أن نبتعد عن الكذب ونلامس الوجدان لأن الأمم تبنى بالوجدان والقيم لا بالمعلومات والأخبار...
        ونعاهدك حضرة الكاتبة، غير الغريبة عن " الدّيار"، بأنّنا لسنا في صدد إنشاء صحيفة، إنّما في صدد بناء وطن على الورق وفي القلوب، وفي صدد زرع المحبّة على الصّفحات وفي النّفوس، وفي صدد تقديم أسئلة الوطن مع قهوة الصّباح، وفي سبيل هذا الهدف السّامي، ندعو كلّ أمّ إلى إرضاع أسئلة الوطن لطفلها، وكلّ أب إلى أخذ أولاده إلى قلق قيامة الوطن... وكلّ قارئ إلى المشاركة في رحلة البناء هذه التي لا تقتصر على جريدة وتوزيعها، والتي بدأت بتخصيص "صفحة الجنوب" حتى تحرير الجنوب، وستنتهي بتخصيص صفحاتها للوطن حتى تحرير الوطن من حدوده الهاربة إلى حبّات ترابه المعتقلة.
        حسين عبدالله
جريدة "الدّيار" الجمعة 4 أيّار 1990

* من حبر الوجدان... أهدي هذا المقال إلى "مي م. الرّيحاني" وأغلّفه بالشعر وفورة العاطفة لأنّ هذا حبرنا في "الدّيار" ولن يجفّ هذا الحبر بإذن الله.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.