8
ما الذي جعل روز تطرح ذلك السؤال على ناجي بعد مضي عشرين عامًا على
علاقتهما؟ لماذا في تلك الليلة بالذات خطر لها أن تواجهه بالسؤال الذي لم تجرؤ على
طرحه سابقًا خوفًا ممّا ستسمعه؟ عشرون عامًا من الحبّ والصداقة والعشرة، كبر فيها
أولاده وأولاد أخوتها، ونشبت معارك وحروب، ومات كثر، وهاجر من استطاع، وروز
مطمئنّة إلى الحماية التي أحاطها بها رجل حياتها، فلم تخش كلام الناس ولا وجود
امرأة أخرى تقيم في بيته ولا تشكّل لها منافسة، ولم يرعبها القصف والتهجير
والتفجير. ناجي يعشق الأرض التي تمشي عليها، فما الذي يمكن أن يعكّر صفو سعادتها؟
الزواج؟ أليس ما بينها وبين ناجي أقوى وأعمق من أي رابط رسميّ؟ الأولاد؟ ألا يكفي
عدد الأولاد الذين ألقيت عليها مسؤوليّة رعايتهم والاهتمام بهم وتأمين متطلّبات
حياتهم. أولاد حبيب حين يكون أبوهم في السجن وحدهم يكفون كي تكفر بالأولاد وتربية
الأولاد. وابنة جولييت أليست همًّا يرافقها طوال الوقت؟ وأولاد ناجي؟ ألا تتابع
أخبارهم وتعرف كلّ تفصيل عن صحّتهم ودروسهم وهواياتهم ومشاكلهم؟ ومع ذلك، كان هناك
قلق داخليّ لم تستطع روز رغم سطوتها وقوّة إرادتها أن تسيطر عليه لتمنعه من الوسوسة
في بالها وإزعاج الهناءة التي تنعم فيها. حتى حلّ ذلك اليوم، وروز في مرحلة انقطاع
دورتها الشهريّة، ونوبات الغضب والبكاء والتعرّق تصيبها في شكل دائم، وخلقها ضيّق،
وأحاسيسها مرهفة تثيرها أبسط كلمة. قبل ذلك اليوم، كانت روز تأخذ الأمر بمزاح
وتقول لناجي:
"ألا يكفيك امرأة واحدة في مثل هذا العمر ومثل هذه النوبات؟ صار عليك
أن تحبّ واحدة أصغر منّي ومنها!"
وكان حين يحضنها يحاذر أن يعلّق
على الموضوع ممازحًا أو جادًّا خشية أن يقول ما لا يجب أن يقال فتنتفض المرأة التي
يحبّها من بين ذراعيه وتتفلّت منه مبتعدة غاضبة باكية.
غير أنّ روز في ذلك اليوم الشتائيّ البارد من شهر شباط، كانت تشعر بالحرّ
الشديد يخنق أنفاسها ويمنعها عن الاستمتاع بمداعبات ناجي كما تشتهي نفسها. وكان
الناس في لبنان بدأوا يولون عيد العشّاق أهميّة لم تكن له قبل تلك المرحلة، وكانت
أجواء العشق تنشر اللون الأحمر في كلّ مكان، ومع أنّ روز وجدت الأمر سخيفًا في
الأعوام الماضية، إلاّ أنّها هذه السنة شعرت بأنّ من حقّها أن تطالب بالاحتفال به،
وأمام استغراب ناجي تصرّفاتها ورفضه الانصياع لمزاجها العكر الطفوليّ، طرحت روز
السؤال الغريب:
"هل أهديت زوجتك هديّة في هذه المناسبة؟"
ما عشقته روز في ناجي طوال هذه الأعوام أكثر من سواه هو صدقه وصراحته. كانت
تعرف أنّه لا يكذب على أحد، ولا يمكن أن يكذب عليها. ربّما لهذا السبب كانت تحاذر
الدخول معه في أحاديث تفصيليّة عن زوجته أو عن أيّ شيء آخر قد يقلق ما هي فيه من
حبّ وغرام، وتترك له أن يحكي ما يريد من دون أن تطرح أسئلة قد تحرجه فتسمع أجوبة
قد تجرحها. ولكنّها اليوم طرحت السؤال وعليها أن تتحمّل النتائج. روز ثائرة، وناجي
غاضب، والجواب كان:
"نعم، قدّمت لها هديّة بناء على اقتراح الأولاد".
كان من الممكن أن ينتهي الأمر هنا. وتطوى المسألة، وتنطفئ ثورة الأعصاب بعد
عتاب لا بدّ منه. غير أنّ سببًا ما دفع روز إلى طرح السؤال الآخر:
"متى كانت آخر مرّة نمت فيها مع زوجتك؟"
لم يكن ثمّة حاجة لانتظار الجواب كي تنهار روز. كان الاصفرار الذي لوّن وجه
الرجل الذي وثقت به أكثر من نفسها جوابًا قاطعًا. هو ليس الاصفرار الذي يأتي من
الغضب أو الاستنكار أو الرفض، هو اصفرار من ألقي القبض عليه بالجرم المشهود ولا
يملك ما يستر به عريه. لم يعد يهمّ أن تسمع روز الجواب، لم يعد يعنيها أن تعرف منذ
متى، وكم عدد المرّات، أو إن انقطع عن النوم معها خلال هذه الأعوام الطويلة، كلّ
ذلك لم يعد يهمّ، كانت تريد أن تختفي، أن تنسى الخيانة، أن ينتهي كلّ شيء، فوقعت
على الأرض مغشيًّا عليها وغابت عن الوعي في عالم آخر.
حين عادت روز إلى وعيها، كانت الغرفة غارقة في الظلمة، وهي في فراشها. سمعت
أصوات أمّها وشقيقتها وناجي بعيدة كأنّها تصل إليها من عالم آخر وليس من الغرفة
المجاورة. حاولت أن تتحرّك، فوجدت جسمها ثقيلاً، حاولت أن تنادي أختها أو أمّها
فطلع صوتها صرخة مدوّية غير مفهومة. هُرع الثلاثة إليها، غير أنّ ناجي وقف بعيدًا
عند الباب. تشابكت أسئلة الأم والأخت تريدان أن تعرفا ما الذي حدث، غير أنّ روز
ردّت بجواب بسيط إذ فهمت أن ناجي لم يقل لهما شيئًا. هي لا تزال تعرف هذه الناحية
من شخصيّته على الأقلّ. أم هذه أيضًا انهارت مع انهيار كل شيء آخر؟
"لا شيء. مجرّد تعب. اتركوني أريد أن أنام. سنتكلّم لاحقًا. ولكنّي
أريد أن أشرب".
تبادل الجميع النظرات المتسائلة عمّا يجب فعله، جولييت أخذت ضغط دمها وقاست
حرارتها، فلم تجد ما يثير القلق، نجلا تفرك يديها بعصبيّة ولا تجرؤ على الكلام،
ناجي ينظر إليها لعلّها تنظر إليه فتلتقي العيون ويمحى كلّ الألم والحزن والغضب.
ثمّ قرّروا أن يتركوها تنام بعدما ناولتها أختها كوب الماء. فالصباح رباح. وغدًا
ستفهم الأمّ والأخت ما الذي يخفيه عنهما ناجي وروز. ولم يحدس أحد من الثلاثة بأنّ
هذه الكلمات القليلة التي قالتها روز تلك الليلة ستكون آخر كلماتها المفهومة. فبعد
ذهاب ناجي، وخلود نجلا إلى النوم وعودة جولييت إلى المستشفى لتأمين نوبتها
الليليّة، ستقوم وردة وتتوجّه إلى الحمّام وهناك ستبتلع قنينة الديمول التي جلبها
لها ناجي لترشّ الحشرات التي غزت الوردات على الشرفة وجعلت أوراقها ذابلة متآكلة.
وحين ستستيقظ نجلا مع إطلالة الصباح وتقصد الحمّام، سيستيقظ سكّان المبنى على صراخ
شقّ سكينة الفجر، وسيعلم الجميع أنّ وردة انتحرت.
(جولييت)
"لا أحد غير كمال يعرف أنّي وعدت روز بالعودة في
تلك الليلة. قلت لها بعد أن دخلت أمّي غرفتها:
(سأذهب إلى المستشفى وأؤمّن من ينوب عنّي وأعود بسرعة).
ولو فعلت ذلك، لو عدت بسرعة، لكنت أنقذت وردة. أنا خائفة
من أن تكون شقيقتي قد تناولت الديمول وهي تراهن على عودتي بسرعة كما وعدتها
فأنقذها. ربّما هي محاولة انتحار، ربّما أرادت أن تخيفنا عليها، أن تهدّدنا بأنّها
ستقتل نفسها عن جدّ إن تابعنا إزعاجها. ربّما أرادت أن تجبر ناجي على ترك كلّ شيء
من أجلها بعدما كبر أولاده وما عادوا في حاجة إليه. لا أعرف. لكنّها ليست من النوع
الذي ينتحر. لا شكّ في أنّها قالت:
(جولييت ممرّضة وستنقذني في الوقت المناسب).
يا حسرتي عليك يا وردة، متّ وأنت تنتظرين كأن لم يكفك أن
تنتظري طوال عمرك كي تنصفك الحياة.
حاولت مرارًا الاتصال بها لأخبرها بأني لم أجد حتّى الآن
من ينوب عنّي، فكان خطّ التلفون مشغولاً طوال الوقت. ولكنّ ذلك أراح بالي، قلت في
نفسي:
(لا شكّ في أنّها تتكلّم مع ناجي، وهذا أمر جيّد، أحسن
من ميّة حبّة دوا للأعصاب).
ولم يخطر لي أن أتلفن لإحدى شقيقاتي أو لنجيب كي يذهب
أحدهم إليها. أقنعت نفسي بأنّ ناجي وحده قادر الآن على تهدئتها. من أين لي أن
أفكّر في أنّها ستشرب الديمول؟ وردة؟ كلّ الناس يخطر على بالهم الانتحار إلاّ
وردة.
ولكن ما الذي جرى؟ من كان يشغل الخطّ؟ لماذا شربت
الديمول؟ أسئلة كثيرة لم أجد لها أجوبة وأنا أجلس إلى جانب وردة في المستشفى.
ألهذا الحدّ يستطيع أقرب الناس لنا أن يخدعونا؟ وما الذي يعمينا عن رؤية ما هم فيه
حتّى يفاجئنا مرضهم أو حزنهم أو رغبتهم في الرحيل فننتبه إلى أنّ كلّ الإشارات
كانت تنبئ بذلك ولكنّنا اخترنا أن ننظر ولا نرى. كنت أكلّمها بصوت مرتفع، لعلّ ذلك
يساعدها على مقاومة ما هي فيه أو احتماله على الأقلّ. غير أنّها كانت عاجزة عن
الكلام، وكلّ ما كان يصدر عنها أصوات غير مفهومة فيؤلمها عجزها عن التعبير ويؤلمني
أن أراها تتألّم أكثر. وحين كانت تفتح عينيها من وقت لآخر وتنظر إليّ وأنا منحنية
فوق وجهها كانت الدموع التي لم أرها وهي في عزّ صحّتها وقوّتها تخرج من هاتيك
العينين دفعة واحدة كأنّها لم تفتح جفنيها إلا لتخرج الدمع.
طوال العشرين يومًا التي أمضيتها معها في المستشفى لم
أكن أفكّر إلاّ بأنّها تفكّر في ناجي. ناجي الذي لم يقل لي شيئًا لا أعرفه عن تلك
الليلة. فحين تركت وردة لأذهب إلى المستشفى كنت فهمت منها أنّها غاضبة منه وأنّه
لا يفهم أنّها تعبة وعاتبة ولم تعد تحتمل. هذا أيضًا ما فهمته من ناجي، ولكن كلّ
ذلك ليس بجديد عليها، فلماذا الآن؟ كلّ ذلك لم أذكره أمام رجال الدرك، قلت لهم ما اتفقنا كلّنا
على قوله:
(أخطأت في القنينة وظنّت أنّها تشرب ماء).
لو عدت في تلك الليلة لما ماتت أختي الكبرى التي حضنتني
وطفلتي حين هربنا ولجأنا إليها. هل يكفي أن أجلس إلى جانبها وأكون شاهدة على
آلامها كي أردّ لها دين الاعتناء بي وبياسمينة وتحمّل تبعات كلّ ذلك وتأثيره على
حياتها الشخصيّة؟
قالت لي الأخت
التي تكبرني بأكثر من عشرين سنة، والتي اختارت اسمي واسم ابنتي وعاملتنا كأنّها
أمّنا:
(لن تعودي إلى ذلك المجنون مهما كلّف الأمر).
غير أني خذلتها حين احتاجت إليّ ولم أعد لأنقذها من جنون
عصف بها تلك الليلة وجعلها تنهي حياتها وهي تحترق من الداخل. لم يسمحوا لي بترك
العمل، ولم أجد من ينوب عنّي، وفي المستشفى أيضًا مرضى يحتاجون إلى من يهتمّ بهم،
والخطّ كان مشغولاً، كيف كان لي أن أعرف أنّها رفعت السمّاعة، وأنّ ناجي كان يقود
سيّارته طوال الليل على الطرقات الخالية إلاّ من الحواجز، وأصوات القصف تتردّد على
أكثر من جبهة، وهو هائم حائر لا يعرف ماذا يفعل. فتمنّى لو تنزل قذيفة تريحه من
هذا الصراع".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق