الأحد، 28 يناير 2018

مكسيكيّون بعض الوقت لا بأس أستاذي - جريدة "النّهار" الثلثاء 21 أيلول 1993


مكسيكيّون بعض الوقت لا بأس أستاذي
       أستاذ زاهي وهبي
       أيمكنك أن تتخيّل ما الّذي كان سيقوله غسّان كنفاني لو قدّر له أن ينجو من الاغتيال، ويجيب عن أسئلة تلك الصّحافيّة الشّابة؟
       مسكين غسّان، قُتل قبل أن تتاح له الفرصة لتلك المقابلة المهمّة، على كلّ حال، ولولا ما ورد في تّحقيق الآنسة واعترافها بموت كنفاني، لقلت عنها: برافو، فهمت أنّ الأديب لا يموت، وغسّان ما زال حيًّا ما دامت أعماله حيّة.
       وليس غسّان كنفاني وحده المسكين. وليست تلك الآنسة وحدها المسكينة.
       وإليك هذه الأخبار:
       أحد الأساتذة الثّانويّين، عتيق في المهنة كما يقول، يتجاوز عمره السّتين ـ بكثير ـ ويدرّس الأدب العربيّ رآني، هذا الأستاذ العتيق أقرأ كتابًا ل"حنّا مينة"، فسألني عن صاحب الكتاب، واستغربت واعتقدت أنّه يمتحن معلوماتي، وإذا به فعلاً لا يعرفه ولم يسمع باسمه، وعلّق أخيرًا في محاولةٍ لإنهاء الحديث بكلمة فصل، وباستخفاف: "قد يكون واحدًا من جيلكم، ولذلك لا أعرفه".
       وطلب منّي أحد الأساتذة ـ وهو مسؤول عن قسم اللّغة العربيّة في إحدى المدارس "المهمّة" ودكتور في الجامعة اللّبنانيّة ـ طلب منّي هذا "الدّكتور" لائحة ببعض الكتب العربيّة التي تصلح للمطالعة، وذلك لصالح مكتبة المدرسة. وعندما أريته اللاّئحة وضع بعض علامات الإستفهام أمام كثير من الأسماء، فظننت أنّه يعترض على نوعيّة الكتب، فقد يحمل بعضها اتّجاهات سياسيّة مغايرة لمعتقداته (ككتب الياس خوري مثلاً)، أو قد تسيء إلى بعض هذه الكتب، الأخطاء اللّغويّة والإملائيّة ما يؤثّر سلبًا على لغة التّلاميذ (كما في كتب حنان الشّيخ، مع الأسف )، وربّما لأنّ بعضها جريء أكثر مما تسمح به المدرسة المحترمة، ويتناول مواضيع دينيّة وجنسيّة لا يجوز إثارة انتباه التّلاميذ لها ـ ( وكأنّ التّلفزيون والسّينما لا يفعلان) ـ ولكنّ المفاجأة في إنّ الدّكتور لم يسمع ب"الياس الخوري" ولا "بحنان الشّيخ"، ولا ... بزاهي وهبي طبعًا.
       ونيابة عنّي، طمئن الياس الخوري، أطال الله عمره، فهو لن يرحل وستأتي إحدى الآنسات لتسأل عنه بعد الرّحيل.
       وتسخر من المسلسلات المكسيكية؟ سامحك الله. لو ترى تجمّعات المدرّسين والمدرّسات حول ركوة القهوة (التي يدفعون ثمن بنّها من جيوبهم منذ توقّفت إدارة المدرسة عن تقديمها لهم منذ توقّفت إدارة المدرسة عن تقديمها لهم في غلاء المعيشة).
       أفراد الهيئة التّعليميّة هؤلاء يتبارون في سرد أخبار هذه المسلسلات وتحليلها والتّعليق عليها. على كلّ حال، قد تكون هذه البرامج أرخص وسائل التّرفيه لهذا المدرّس الطّفران.
       وكيف نعتب على خرّيجي المدارس والجامعات (والصّحافة) ما دامت الهيئات التّربويّة المسؤولة عن إرشادهم وتوعيتهم تقبع تحت ثقل هذين العجزين: المادّي والفكري. وإن فهمنا، على كلّ حال، عجز هؤلاء المدرّسين عن زيارة المسرح ودار السّينما، أو شراء الكتب والمجلاّت المتخصّصة، فلا نفهم طبعًا تقوقع الكبار منهم في مرحلة أدبيّة معيّنة يرفضون تجاوزها لمعرفة الجديد ومعايشته، وكأنّهم ما تخطّوا بعد العصر الجاهليّ، لأنّ ما كتب بعده لا قيمة له.
       الأزمة خطيرة بلا شكّ، وأنسي الحاج طرح السّؤال المخيف في مقدّمة "خواتم": "هل ماتت الكلمة؟"
       نعم، قد تموت الكلمة إذا استمرّت المؤسسات التّربويّة وما يمتّ إليها، على هذا النّحو من التّصرّف.
       المدارس تخفّف من الحصص للّغة، لإدخال برامج الكومبيوتر مراعاة لذوق العصر وسرعته. وقليلة جدًّا هي المدارس التي تدعو تلاميذها إلى حضور مسرحيّة مهمّة، أو إلى مناقشة فيلم هادف، لأنّ ذلك يشكّل عبئًا مادّيًا على التّلاميذ، ولأنّ المدرّس ليس مضطرًا إلى مرافقة تلاميذه في هذه النّشاطات الثّقافيّة، والمدرسة لا ترغمه خارج الدّوام كي لا تدفع له زيادة على راتبه، وخلال الدّوام، ستؤثّر هذه النّشاطات على سير الدّروس.
       هذا بعض ممّا يقال عن المدارس، أمّا إذا أخذنا المؤسسات الإعلاميّة، ومن أهدافها الإعلام والإعلان، فنلاحظ عامّة ذلك الإهتمام بالشّكل الخارجيّ في الوسائل المرئيّة، و"بالواسطة" في الوسائل المختلفة.
       أتعلم؟ قد لا يكون الحقّ على تلك الصّحافيّة المسكينة التي تقول أنت إنّها فضحت نفسها عندما سألت عن غسّان كنفاني. أكيد أنّها بأسئلتها للمخرج والممثّلين أظهرت مستوى ثقافتها، ولكنّهم في حاجة إلى مثيلاتها وسيلة إعلان ودعاية للمسرحيّة وللقيّمين عليها.
       أعطيك مثلًا آخر تساهل المثقّفين مع اللاّمثقّفين: الياس خوري في سهرة غير شكل. ألا تظهر هذه الغلطة من الياس خوري مدى ضعف الفنّان أو الكاتب أمام الصّحافة حتّى لو كانت سخيفة، حتّى لو كانت الصّحافيّة جاهلة وغبيّة. على كلّ، قد يتلازم جهلها مع الحاجة النّفسيّة عند الضّيف الذي أرضى غروره وأظهر تفوّقه على السّائلة و"المتسائلة" (ولا أقصد هنا الياس خوري).
       وأذكر كيف كنت أسمع أحاديثكم في الباحة الدّاخليّة لمسرح بيروت. كنت أرى تهافت "المثقّفات" الفاتنات عليكم، واستقبالكم لهنّ بالتّرحاب "السّاخر" أحيانًا، والحارّ غالبًا.
       وهذه الصّحافيّة ضحيّة إعجاب ساخر، أو إيحاء كاذب من رئيس تحرير أو من مسؤول عن الصّفحة الثّقافيّة الجالس في "المودكا" أو "الهورس شو" مذ أقنعها أحدهما بأنّها موهوبة، وبأنّها خلقت للكتابة و"التّحبير".
       وأعود إلى "العنوان الوحيد الأحد في حياة اللّبنانيّين اليوم"، وهو "السّهر كلّ خميس وجمعة وسبت"، مع أبطال الشّاشة المكسيكيّة الّذين انتقلت أزياؤهم وغيتاراتهم إلى مسرح منصور الرّحباني كي يبقى على الموضة.
       أعود إلى هذا الحديث لأسأل عن السّبب. وعدا لوم المشاهدين اللّبنانيّين وتحميلهم مسؤوليّة عصر الإنحطاط الثّقافي هذا، أحبّ أن ألفت انتباهك إلى بعض الأمور:
       أوّلاً: هل قدّم التّلفزيون الرّسميّ والخاصّ برنامجًا محلّيًّا مهمًّا يحمل النّاس على متابعته، وبلغّتهم؟
       ثانيًا: هذه البرامج تعالج قصصًا عاطفيّة سخيفة ومملّة. لا نقاش في هذا الأمر، ولكنّها في المقابل تدغدغ أحلام النّاس وتعود بهم إلى مرحلة المراهقة العاطفيّة (وكثيرون منهم لم يتخطّوها بعد)، كما إنّها بعيدة عن مفهوميّ الجنس والعنف، على عكس البرامج الأميركيّة التي لم يكن لها هذا الحظّ من النّقد والإعتراض السّاخر. فحلقة واحدة من المسلسل الأميركي تحمل على خطّين متوازيين: صورة الجنس الرّخيص والعنيف الذي ينحدر بالإنسان إلى درك الغريزة المقرفة، كما يحمل صورة مجتمع قائم على العنف والقتل والإغتصاب والمخدّرات.
        وصالات السّينما وشاشات التّلفزيون تعجّ بنجوم هوليوود، نأكل معهم ونشرب معهم ونلبس مثلهم، ولم يعترض أحد. صحيح إنّ البرامج المكسيكيّة ليست أرقى حالاً، ولكنّها تحاول أن تغلّب نزعة الخير على الشّرّ أوّلاً، كما تعد النّاس بالثّراء والغنى عن طريق الحلم والحبّ والصّدفة في مجتمع فقير لا يختلف حاليًّا عن مجتمعنا.
       ثالثًا: لماذا هذه الحملة على البرامج المدبلجة؟ فالدّبلجة ليست اختراعًا لبنانيًّا، فرنسا مثلاً سيّدة في هذا المجال في محاولة منها لمنع الأذن الفرنسيّة عن تذوّق لغة أخرى منافسة كالإنكليزية مثلاً، وهذا ما يفعلونه حتّى في الأخبار.
       ولاحظت أنّ الدّبلجة تريح النّظر عند كثير من كبار السّنّ، وهي البديل الوحيد للأميّين الّذين كان التّلفزيون لهم حتى الأمس القريب وسيلة ترفيه مؤجّلة لكثرة البرامج الأجنبيّة.
       أمّا في الممثّلين المتّهمين بالأختباء خلف الوجوه المكسيكيّة، فأسأل: هل قدّم لهم عمل لبناني ورفضوه؟ وبما أنّه يحقّ لمنصور الرّحباني أن يقدّم عملاً ك "الوصيّة" لأنّ "أكل العيش عايز كده" فلماذا نمنع من هو أقلّ منه قدرة على مقاومة "الجوع".
       الحقّ معك يا أستاذّ زاهي عندما تصف "وقائع العيش اللّبنانيّة والجهل المطبق على الحياة اليوميّة والإنحطاط المتسارع". وما كنّا لنعترض على هذه البرامج السّخيفة لو لم تتحوّل إلى الحديث الثّقافيّ الوحيد عند اللّبنانيّين. فلو كان الإقبال عليها من باب التّسليّة ويترافق مع اهتمام بالآداب والفنون المحترمة لما اعترض أحد. حتّى سعيد عقل كان يتابع من حين إلى آخر بعض البرامج المصريّة للتّسليّة والتّمويه عن النّفس. ألاحظت؟ من استعمار فرنسي إلى آخر أميركي، إلى آخر مكسيكي أو مصري أو برازيلي... كم من ثقافة عندنا... ولا ثقافة لنا.
       أستاذ زاهي
       أنا لا أدافع عن هذه البرامج، ولم أتابع أيًّا منها إلّا بعد إن لاحظت اندفاع جيل المراهقين، الّذين أعمل معهم، إلى حضور هذه البرامج. وكنت في الحقيقة انتظر منهم العكس. وعند سؤالهم عن السّبب، كان الجواب إنّ الرّومانسيّة في هذه المسلسلات هي ما يجذبهم.
       وعند متابعتي لبعض الحلقات، فهمت أنّهم يجدون قصّة حبّ ناعمة تذكّرهم بروايات بربارة كارتلند وسواها، إذ يعرفون انّ النّهاية ستكون مفرحة وسعيدة، وسيرتاح الجميع ما عدا الأشرار.
       وفي المقابل، ماذا قدّمنا نحن لجيل المراهقين هذا؟
       ذكرت "صوت العدالة" وها هو برنامج سيمون أسمر الجديد يمشي على الخطى نفسها في الثّرثرة والنّميمة وإثارة الفضائح. وذكرت "روايات عبير"، وما الذي كتبه مؤلّفونا من قصص حبّ تجذب جيل المراهقين وبلغة سليمة وبمستوى أدبيّ وفنّيّ راقٍ؟ (أحصر كلامي هنا بالرّواية والقصّة المفضّلتين عند الشّباب). عندما نطلب من طلّاب المدرسة أن يطالعوا، يُفاجأون بنوعيّة كتب اللّغة العربيّة، فمواضيعها محصورة في عالم القرية الذي لا يعرفونه، ولا يعنيهم أن يقرأوا لمارون عبّود في حديثه عن معّاز الضّيعة، وهم يتسكّعون مساء في الكسليك من سينما إلى نادٍ ليلي. وإن لم تكن المواضيع عن القرية فعن المدينة خلال الحرب وبعدها، وما أصابها من دمار وما أحاطها من موت. فيرمون الكتاب وهم يصرخون: "ما هذا؟ شي بيطبّق على القلب". وهذا ما قالوه عن فيلم "الإعصار".
       سألني أحد الطّلاّب، وهو مدمن المطالعة، فريد من نوعه:
       لماذا لا نجد في الرّواية العربيّة كتابًا واحدًا فرحًا؟
       هل أخبره عن معاناة العربيّ ومأساته عبر العصور، بدءًا من رحيله عن خيمته إلى رحيله عن أرضه، إلى وقوفه متسوّلاً على أبواب حكّام العالم، مرّة لكي يعطونا السّلام، ومرّة لكي يعطونا الطّعام، ومرّة لكي يعطونا براءة ذمّة.
       هذا الجيل؟ يا أستاذ زاهي، ماذا قدّمنا له ليقرأ، وليزداد ثقة بنفسه وبالمستقبل؟ بالله عليك، لا تتعب وتبحث عن كتاب واحد يحمل هذه المواصفات. أنا لا أقول إنّ على الأديب أن يكذب ويضحك على هؤلاء الشّباب ويوهمهم بالعزّ والكرامة وهما غير موجودين. ولكن رأفة بهؤلاء الحالمين، لا تهدموا أحلامكم وما زالت مخطّط حلم.
       أنت، في فترة مراهقتك، ماذا كنت تقرأ؟ ألم تبحث عن كتاب مغامرات أو عن قصّة عاطفيّة سعيدة لا تحمل وعظًا دينيًّا أو إرشادًا أخلاقيًّا كما تفعل صاحبة القهوة التي تقدّم خمرًا وتقول للنّاس "أنا ما برضى إبني سعادتي على حزن الآخرين": معنى نستطيع إيصاله دون أن نقع في اللّهجة الخطابيّة ونسكت ليصفّق النّاس.
       جيل المراهقين الذي يحفظ حلقات مسلسل "بيفرلي هيلز". وتقوم بناتنا بتقليد لباس بطلاته وطريقة تعاملهنّ مع أهاليهنّ أو مع إدارة المدرسة أو مع زملائهنّ، هذا الجيل ماذا قدّمت له وسائل الإعلام غير أفلام الفيديو كليب؟ وماذا قدّمت له الرّواية العربيّة؟
       والصّحافيّة السّابقة الذّكر ليست بغريبة عن هذا الجيل الذي هو الآن على عتبة عالم العطاء بعد إن كان في مرحلة الأخذ والتّلقّي، والإناء سينضح طبعًا بما ملئ.
       وستأتي صحافيّة في المستقبل القريب لتسأل مادونا عن رأيها في آخر الكتب الصّادرة حديثًا وخاصّة أنّها صاحبة المكتبة الوحيدة العامّة في البلد (عبّرت عن رغبتها إقامة هذه المكتبة خدمة لجيل الشّباب الذي يرقص على وقع أغنياتها ليلاً).
       فهل تستغرب سؤال هذه الصّحافيّة أيضًا؟
       أستاذ زاهي،
       كانت فشّة خلق، أرجو أن يكون وقتك ـ وصبرك ـ اتّسعا لها.
مي م. الرّيحاني
(بعبدا)
جريدة "النّهار" الثلثاء 21 أيلول 1993
* رسالة إلى زاهي وهبي تعقيبًا على مقاله "أن يصير العيش خاليًا من جوهر وروح" في صفحة "النّهار" الثّقافيّة. الثّلثاء 14/9/1993. 

       

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.