4
لم يكن ناجي يخطّط للوقوع في الغرام، فالرجل يحترم زوجته
ويحبّ أولاده، ومع أنّه عرف نساء كثيرات إلاّ أنّه لم يقع في الحبّ كما قرأ عنه في
الروايات، وبعدما تزوّج بقي حريصًا على ألاّ يخرب بيته بعلاقة لن تحمل له أو لمن
حوله إلاّ الأذى. كان مقتنعًا بأنّه يحبّ زوجته بالطريقة التي يعرفها ولن يحبّ
سواها وإن كان هذا الحبّ هو أقرب ما يكون إلى نوع من الشراكة كتلك التي في سائر
المؤسّسات: احترام وتوزيع صلاحيّات وعدم التدخّل في شؤون الآخر. لكنّه حين التقى
روز في السفارة الأميركيّة اكتشف نوعًا آخر من النساء لا يشبه زوجته أو أمّه أو
شقيقاته أو النساء اللواتي كان يصطحبهنّ إلى السرير ليلبّين له رغبات جامحة يخجل
من طلبها من زوجته التي ستبقى في نظره أمّ الأولاد في الدرجة الأولى. وردة كانت
كائنًا آخر لا علاقة له بالأرض، وبقي طوال علاقته بها يسأل نفسه من أين لهذه
المرأة الصغيرة النحيلة تلك القدرة العجيبة على الحبّ بالشكل الذي تعرفه وتمارسه.
ولم يستطع أن يجد الجواب مع أنّه كان أكثر الناس قربًا منها ومعرفة بأدقّ أسرارها
وخفايا روحها المضطربة القلقة. في لقائهما الأوّل في ذلك المقهى البحريّ عرف ناجي
أنّه وقع في غرام روز. ومع أنّه حاول لاحقًا وبعزم لا غشّ فيه أن يبتعد عنها وأن
يقاوم هذا الحبّ، إلاّ أنّه في قرارة نفسه تمنّى أن يفشل، لأنّه تذوّق شعورًا لم
يجرؤ يومًا على الحلم به بعدما تزوّج وصار عنده أولاد. وفي وقت كان كثير من
أصدقائه يرزح تحت ثقل التعب من المشاكل الزوجيّة والهموم العائليّة كان الرجل
يستعيد شبابًا أصيلاً صافيًا سعيدًا موعودًا بأجمل اللحظات، فهل يحرم نفسه من كلّ
ذلك؟
لماذا لم يلتقِ بها قبل أعوام قليلة فقط؟ يطرح على نفسه
السؤال ثمّ يندم حين يشعر بأنّ سؤالاً من هذا النوع يعني أنّ أطفاله ما كانوا
ليوجدوا، هؤلاء الأطفال الذين يتمنّى الآن من صميم قلبه لو كانت روز أمّهم.
هو لم يكذب على روز، أخبرها منذ اللقاء الأوّل بأنّه
متزوّج وعنده أولاد، وبعدما تبادلا قبلتهما الأولى بعد ذلك ببضع لقاءات، صارحها
بأنّه لن يترك زوجته مهما حصل بينهما. وهي وافقت. ولكنّهم حين أخبروه بأنّها
ابتلعت قنينة الديمول التي جلبها لورداتها وأنّها في المستشفى تصرخ من الألم فهم
أنّها كذبت عليه منذ سنوات حين جعلته يصدّق أنّها موافقة وأنّها لا تريد أن يترك
زوجته وأولاده من أجلها وأنّها ستحبّهم لأنّه يحبّهم. ولكن هل صدّقها فعلاً؟ أم
أنّه تمسّك بكلماتها ووعودها، لأنّ ذلك "أخفّ مشاكل وأقلّ وجع راس"؟
الآن وهو يستمع إلى أخيها حبيب وهو يصف له حالتها ويطلب منه ألاّ يحضر إلى
المستشفى اكتشف ناجي أنّه كان هو أيضًا يكذب على نفسه وعليها حين شكرها على
عاطفتها ونبلها وسمّو عاطفتها، وأنّه كان يعي في عمق أعماقه أنّ هذه المرأة التي أحبّها
وأحبّته لأعوام طويلة لم يكن من الممكن أن تقبل إلى ما لا نهاية بأنصاف الحلول،
وأنصاف المواقيت، وأنصاف المناسبات، وأنصاف الليالي، وأنصاف العواطف. وإلاّ فلن
تكون هي روز التي أغرم بها، روز الكليّة الشغف، الكليّة الرغبة، الكليّة العاطفة،
التي تريد كلّ شيء أو تتعالى على كلّ شيء.
لا يزال ناجي يذكر قبلتهما الأولى: كانا في منزلها بعدما
دعته لزيارتها كي لا يلتقيا دائمًا في الأماكن العامة. حين فتحت له الباب اندفع
نحوها وأخذها بين ذراعيه وأطبق بشفتيه على شفتيها. كان يشعر بأنّ الشفتين اللتين
اشتهى تقبيلهما منذ التقيا تنتظران بلهفة. ولم يخب أمله. روز كانت أكثر منه رغبة
وشوقًا. غير أنّها ابتعدت فجأة وعيناها لا تفارقانه لحظة وابتسامة لا صفة لها تنير
وجهها ثمّ قالت:
"ليس الآن. دعنا نحضّر الأجواء ونضمن أن لا أحد
سيصل بغتة إلى البيت. لا أريد ما يلهيني عنك".
استطاع ناجي بصعوبة أن يمنع نفسه عن أخذ روز بين يديه من
جديد فقال لها:
"دعيني أرى بيتك إذًا ولنشرب القهوة على الشرفة.
عليك أن تحاولي أن تلهيني عن التفكير في ما أرغب فيه إن أردتِ أن أبقى
بعيدًا".
قالت له بصوت دافئ وهي تمسك بيده وتدعوه لمرافقتها إلى
المطبخ لإعداد القهوة:
"وأنا؟ من سيلهيني عنك بعد الآن؟"
ومع ذلك، شعر بأنّها خائفة ومضطربة كأنّها لم تعرف رجلاً
قبله. ولولا أنّها روت له حكايتها لظنّ أنّ هذه المرأة الحبيبة لا تملك أيّة خبرة
في هذا المجال بل تخاف فعلاً من أمّها وأخوتها. راقبها وهي تعدّ القهوة فوجدها
حائرة ترتجف الملعقة في يدها، ولا تعرف ماذا عليها أن تفعل بها، فأخذها منها،
وأعدّ لكليهما القهوة وهو سعيد بما يجري ففكرة أن تكون روز خائفة ممّا هي مقدمة
عليه يعني أنّها تأخذ علاقتهما على محمل الجدّ ما أثار عاطفته وجعله يتمنّى لو
يأخذها الآن.
كلّ من عرف ناجي في مرحلة علاقته بروز رأى أمامه رجلاً
عاشقًا كأولئك العاشقين الذين كُتبت عنهم القصص والروايات. وكلّ الذين كانوا
يعرفونه قبل مرحلته "الورديّة" كما كان يحبّ أن يطلق على عهد عشقه روز
كانوا يقولون هذا ليس الرجل الصلب الذي كنّا نعرفه. لقد ليّنت تلك المرأة الصغيرة
طباعه ورقّقت مشاعره وعلّمته كيف يكون حنونًا ومجنونًا في الوقت نفسه، فصار أقرب
إلى الشخص الذي كان يعرف أنّه يختبئ فيه تحت ألف قناع من تلك الأقنعة التي تضعها
الحياة على وجوه الرجال ليصيروا كما أريد لهم أن يكونوا لا كما يرغبون في أن
يكونوا. وناجي كان واحدًا من لابسي الأقنعة الذين أقنعوا أنفسهم بأنّهم اختاروا
ذلك عن رضى واقتناع ولم يفرضه عليهم أحد.
لو قدّر لزوجة ناجي أن ترى زوجها مع روز لأنكرته. صحيح
أنّها كانت تعرف بعلاقته بها كما كان المجتمعان البيروتيّ والبقاعيّ يعرفان، غير
أنّ خيالها كان أعجز من أن يتصوّر الرجل الذي تخشى سطوته وتحترم هيبته ولا تناقشه
لأنّها تثق به ثقة عمياء يتحوّل مراهقًا عابثًا يعيش بين أحضان وردة أجمل لحظات
العشق وأكثرها شاعريّة ومجونًا في وقت واحد. ناجي نفسه لم يكن ليصدّق ذلك لو كان
ثمّة وسيلة تسمح للرجل برؤية شخصيّته الثانية التي ما كانت تكتفي بخلع الملابس بل
كانت ترمي الأقنعة واحدًا تلو الآخر كي يظهر الرجل الذي عشقته وردة وعشق روز من
دون أن يخشى لومة لائم أو عتب عاتب. وحين كانت تسأله: أتحبّ وردة أم روز؟ كان
يطمئنها ويقول لها:
"أحبّ روز لأنّها تحمل لي وردة في قلبها".
حين كان حبيب يصف آلام وردة أمام الرجل الذي يحبّها بدا
كأنّه يحاول أن يختار الكلمات الأقلّ إيلامًا، غير أنّه لسبب لا يعرفه كانت
الكلمات تأتي جارحة حارقة تمزّق قلب ناجي وتجعله يرغب في وضع يديه القويتين على
عنق حبيب لعلّه يختنق ويخرس. كان صوت فيه يقول له إنّ حبيب يريد لهذا الرجل الذي نام
مع أخته وداعب جسمها وعصر شفتيها أن يتعذّب ويتألّم، كأنّ الأخ الحبيب ينتقم الآن
لشرف العائلة بعدما عجز عن فعل ذلك بنفسه حين صار أسير علاقاتها الاجتماعيّة التي
سمحت له بممارسة التهريب وهو مطمئنّ إلى أن روز ستساعده كما ساعدته وردة في بداية
حياتها.
وحين كان ناجي يستعيد تفاصيل هذه الجلسة مع شقيق المرأة
التي كانت تحترق من الداخل في سريرها في المستشفى، كان يبكي من دون أن تخرج من
عينيه دمعة، كان يحترق وهو يشعر بوردة تستنجد به وتطلب منه أن يكون قربها. ولكنّ
جولييت تتحسّر لأنّ روز ماتت وحيدة في غرفة العناية الفائقة، مع أنّ شقيقاتها كنّ
يزرنها طوال الوقت وأمّها كانت تدخل في مواعيد الزيارات وهي متماسكة تقاوم كلّ
مرّة مشاعرها الراغبة في الصراخ والعويل، غير أنّ وردة كانت تبحث عن أبيها وتسأله
أن يأخذها معه، وترجو ناجي أن يتركها ترحل مع والدها. فكانت الممرضة تتدخّل وتضخّ
المخدّر في أنبوب المصل فتسكت روز ولا يعلم أحد أين ذهبت وردة.
عرف ناجي كلّ ذلك من شقيقة وردة الصغرى، جولييت، تلك
التي هربت من بيت زوجها وهي تحمل طفلتها ولجأت إلى أختها الكبرى، وحين ماتت وردة،
ورثت الشقّة الأنيقة بعدما تنازل لها أخواها وأخواتها عنها شرط أن تعتني بنجلا
وتخدمها في آخرتها. يومذاك لم تبك وهي تحكي لناجي كيف رحلت وردة، غير أنّ ناجي بكى
ولم يبكِ، صار مثل الستّ روز لا يسمح لأحد برؤيته دامع العينين. وحين سألته جولييت
عن السبب الذي جعل روز تشرب الديمول، غرق ناجي في الصمت ونظر عبر واجهة المطعم
الزجاجيّة، وابتسم وهو يستعيد ذكرى لقائه بوردة في ذلك المقهى البحريّ وتمنّى لو
كان يستطيع أن يفعل شيئًا ليحضنها مرّة واحدة بعد. ولن تعرف جولييت الجواب منه
لأنّها لن تراه بعد ذلك، وستأخذ ظروف الحياة والحرب كلاًّ منهما في اتجاه. وبعد
سنوات من ذلك اللقاء، كانت في دوام خدمتها في المستشفى الذي انتقلت إليه لأنّه
أقرب إلى بيتها حين استدعيت إلى غرفة الطوارئ للمساعدة في معالجة جرحى وقعوا ضحايا
إحدى جولات القصف. وبعدما هدأ الوضع ووزّع المصابون على الغرف، جلست خلف المكتب
لتملأ المستندات الإداريّة المطلوبة، ثمّ تجري أحاديثها المعتادة والعزيزة على
قلبها مع المرضى وأهاليهم. ففهمت من شقيقة أحد المصابين بعد سلسلة أسئلة وأجوبة
أنّ بيتهما قرب المطعم الذي تشارك فيه ناجي وروز، فسألتها عن وضع المطعم وصاحبه.
فقالت الفتاة:
"صاحبه مات بعد أشهر من وفاة شريكته، والزوجة باعت
المطعم وسافرت مع أولادها عند أخوتها في كندا".
لم تكن جولييت تعلم بأنّ ناجي مات. كيف لم تعلم بذلك؟
سألت زاد نفسها. ولكنّ الأمر حصل في العام 1979 والدنيا حرب، والناس يموتون.
ولكن أن يموت رجل من الحبّ لا من الحرب فهذا ما لا يتلاءم مع حكايات الحرب
اللبنانيّة ولا ينسجم مع قسوتها وإجرامها والكراهيّة التي انفجرت فجأة ولم تكن
إلاّ قلّة من الذين يحسنون قراءة مجريات الأمور تعرف أنّها موجودة على هذا القدر
من العنف في قلوب الناس. مات ناجي بعد أشهر فقط من موت وردة؟ هل يحصل ذلك فعلاً
خارج الكتب والأفلام؟ وكيف مات؟ ومن كان معه؟ هل مرض؟ هل مات فجأة؟ أسئلة أخرى لم
تستطع جولييت أيضًا أن تجيب عنها. فهي لم تعر الأمر الأهميّة التي أبدتها زاد وهي
تخبرها ببساطة أنّ وردة تناولت الديمول في شباط من تلك السنة، وكان ذلك على عيد
العشّاق وماتت بعد عشرين يومًا وناجي مات في كانون الأوّل من العام نفسه. هي مع
بداية العام وهو مع نهايته. أيمكن ألا يعني ذلك شيئًا لجولييت فلا تحاول معرفة
المزيد من التفاصيل؟
قالت لزاد:
"يوم علمت لم يخطر لي أن أسأل. حزنت عليه، ولكن كان
عندي من الهموم والمشاكل ما يجعلني مشغولة بنفسي. البنت في المدرسة الداخليّة،
وأنا أمضي أكثر الوقت في المستشفى، وعندما يهدأ القصف وتصبح الطرقات سالكة وآمنة،
أذهب إلى البيت لأنظّفه من دخان الحرائق وغبار الحرب التي لم تكن بعيدة عنه. وفي
أيام العطل أزور ياسمينة في مدرستها في جرود البترون. فلم يكن في بالي أن أعرف كيف
مات ناجي. وفي كلّ مرّة تسألينني أنتبه وأقول ربّما كان يجب أن أسأل".
غريبة جولييت. تريد من زاد أن تكتب حكايتها وهي لا تعرف
شيئًا أكيدًا، ولم تهتمّ بالتفاصيل كي تسأل عنها. ألا تعرف أنّ التفاصيل هي ما
يجعل الحكاية البسيطة رواية تستحقّ النشر؟ لا عن الكولونيل تملك معلومات ولا موت
ناجي حرّك مخيّلتها لتنتبه إلى أيّة قصّة حبّ كانت شاهدة. ومع ذلك تريد من صديقتها
أن تكتب حكاية تتغيّر التفاصيل فيها بحسب مزاجها. وفضلاً عن هذا كلّه هي مقتنعة
بأنّها تملك ذاكرة رهيبة كذاكرة الفيل.
ولكن هذا كلّه لا يمنع من أنّ وردة كانت تستحقّ أن تعيش
وتموت بشكل مختلف. وهذا ما كان يثير حنق زاد على صديقتها الممرّضة إذ تعجز عن
التأكّد منها من المعلومات التي تتعلّق بمراحل دقيقة من سيرة العائلة، فتقرّر أنّه
من العبث الإصرار على كتابة رواية ينقصها الكثير من المعطيات السرديّة والموادّ
المناسبة للوصف ما دامت الحكاية لا تثبت في مكان أو على حال. ولم تزدها لقاءاتها
جولييت إلاّ حيرة وتشتّتًا، خصوصًا أنّ هذه اللقاءات صارت متباعدة ومختلفة عما
كانت عليه زمن الحرب. فضلاً عن أنّ المرأة صارت مشغولة البال بحاضرها ومستقبل
ابنتها الوحيدة وأحفادها ما يجعلها تقرأ الماضي من خلال ما تخشى منه اليوم على
نفسها وعائلتها الصغيرة. وهذا ما لم تفعله حين كانت تنطلق في السرد وهي تزور
أوجيني هاربة من طعام المستشفى الذي لا طعم له.
ولكنّ وردة لا تترك زاد ترتاح من همّها، وتطالبها بكتابة
قصّة حبّها.
"ما بالي مشوشّة؟"
تسأل زاد نفسها.
"من يطلب منّي أن أكتب؟ جولييت أم وردة؟ أم كلتاهما
تريد منّي ذلك، جولييت تريد أن أحكي عن بؤس مصيرها ووردة تريد أن أكتب عن ناجي
الذي لم يتأخّر وانضمّ إليها عاشقًا مشتاقًا بعدما حرمته منها عشرين يومًا
بلياليها ونهاراتها. وحين أخبروه أنّها ماتت قال لهم:
"عرفت بذلك حين شعرت بسكينة غريبة تحيط بي كأنّ
وردة قريبة منّي كما كانت خلال عشرين عامًا".
ولم يقل إنّه ذاهب إليها بعد بعض الوقت. فناجي لا يحكي
عمّا يفكّر فيه أو يرغب في فعله. بل يفاجئ الجميع بتصرّف لا يمكن أن يصدر إلاّ
عنه.
هكذا كان معها في ليلتهما الأولى.
قال لها وهو يمسك وجهها الصغير بيديه الكبيرتين:
"انسي كلّ شيء آخر ما عدانا!"
لم تجب، بل بكت. شرب دموعها التي تخبّئها على الجميع،
فارتمت على صدره وهي تنشج نشيجًا جعل قلبه يرغب في أن يمتلك ذراعين يأخذانها
ويبعدانها عن كلّ ما حولها.
همس في أذنها:
"هذا هو المكان الوحيد الذي أسمح لك بالبكاء فيه.
فوق صدري أفرغي حزنك وألمك وانتظارك، وابقي أمام الآخرين كما كنت دائمًا، المرأة
التي لا يضعفها شيء. أريد أن يجعلك حبّنا أكثر قدرة على مواجهة العالم والناس، لا
أن يضعفك، لأنّك لن تبقي وحدك بعد الآن."
عطر شعرها ملأ أحاسيسه رغبة في أخذها بكلّ الطرق التي
تداعب مخيّلة رجل وجد المرأة التي يكتمل بها. ولكنّه تركها لتهدأ، لتفرغ ما أمضت
عمرها وهي تخبّئه حتّى عن نفسها فلا تراه في المرآة. داعبها، قبّلها، شاكسها،
أضحكها، وحين لاح طيف ابتسامة خلف ضباب الدمع، وصفت العينان بعدما اغتسلتا من غبار
الماضي، وظهرت المرأة التي كان يعرف منذ اللقاء الأوّل أنّها مختبئة فيها، أخذها
إليه.
أخذها كما يمتصّ التراب ماء السحاب.
وأخذته كما يأخذ البحر لون السماء.
قبلها كان بلا حياة، قبله كانت بلا لون.
عادت معه الصبيّة التي صيّروها امرأة قبل موعد أنوثتها.
(ناديا)
"قال لها كلامًا لم أتوقّع أن أسمعه خارج
الأفلام المصريّة التي أحفظ حواراتها. خجلت من كلامه وقلت في نفسي: كيف تستطيع
امرأة أن تسمع هذا الكلام وهو يصدر من رجل ليس زوجها؟ كلام وقح فيه شتّى أنواع
الرغبات، وفيه أمنيات وأحلام ما كنت أعرف عنها شيئًا. عرفت حين سمعته أنّني خسرت
زوجي. ليست الجرأة هي التي فاجأتني في لغته الجديدة عليّ، بل لهجته التي كانت تفيض
عشقًا وحنانًا وفرحًا ومراضاة. كان يشبه ابني سامي حين يحمل إليه أبوه لعبة جديدة
تتحدّى ذكاءه وتثيره بغرابتها وتعقيد صنعها. غير أنّ سامي كان يضجر من لعبته ما أن
يتوصّل إلى معرفة أسرارها وخفاياها. ولكن ما سمعته من ناجي لا يوحي أنّه سيضجر
ويرغب في لعبة أخرى، فأن يستعجل زوجي الاتصال من هاتف البيت ليتحدّث مع امرأة بهذه
الطريقة ولا ينتظر كي يصل إلى مكتبه، يعني أنّه وجد تلك التي ملأت قلبه، قلبه الذي
لم أستطع لا قبل الزواج ولا بعده أن أقيم فيه حبيبة، بل بقيت أمًّا حنونًا لأولاده
وزوجة تجيد تدبير أمور منزله. ولكن لماذا أعتب عليه وألومه الآن وأنا كنت أعرف منذ
لقائنا الأوّل حين زارنا مع والديه وعمّه الخوري أنّ العريس لا يحبّني وأنّه عائد
من السفر ليتزوّج ويؤسّس عائلة، فقد كبر في العمر في رأي عمّه، وصرف أمواله في
السفر في رأي والدته، وصار من الضروريّ أن يرتبط بابنة عائلة تحسن تدبير أموره وهو
يتنقّل بين لبنان والسعوديّة. ومع ذلك، كان عليّ أن أحارب لأنقذ زواجي من فضيحة
ستحطّم حياة الأولاد. فكم من مرّة سمعنا عن علاقات من هذا النوع كانت فيها المرأة
شريرة تبتزّ الرجل وتهدّد أولاده؟ ماذا لو كانت تسخر منه وتسرق أمواله التي هي من
حقّ أولاده؟ لذلك كان عليّ أن أعرف من هي.
لم يكن الأمر صعبًا. فناجي لم يكن من النوع
الحذر. ربّما لأنّه لم يكن يتوقّع أنّني عرفت بأمر حبيبته أو لأنّه لم يفكّر لحظة
في أنّني قد أقدم على خطوة من نوع مفاجأتها والطلب منها أن تبتعد عن زوجي. كنت منذ
وقت أشعر بأنّ ناجي تغيّر. لا لأنّه صار باردًا معي. هو كان هكذا دائمًا والأمر
ليس جديدًا، وليس هذا ما تغيّر فيه، ولكنّه أصبح شاردًا وسعيدًا وكثير التغيّب عن
المنزل، وغالبًا بعد أن ينام الأولاد. كلّ الناس لاحظوا أنّه صار إنسانًا أكثر
حياة. حتّى الأولاد على صغرهم أحبّوا التغيير الذي طرأ على شخصيّة والدهم الذي صار
يلعب معهم أكثر. ربّما كان يشعر بالذنب. ناجي لا يحسن التمثيل والخداع لذلك لم
يستطع أن يخفي ما طرأ على حياته ما أن شعر بما يشعر به وظهر في كلّ ما يقوله
ويفعله.
تبعته مرّة حين خرج من المنزل مساء، فقادني
مباشرة إلى بيتها. في صباح اليوم التالي، قصدت المبنى غير أنّني جبنت في آخر لحظة
ولم أستطع مواجهتها، فكتبت على ورقة وجدتها في حقيبة يدي سطرًا واحدًا:
(من أنت؟ وكيف تسمحين لزوجي بأن يتكلّم معك
بهذه الطريقة؟).
هل كنت أعلم بأنّها ستطلعه على الورقة وسيعرف
خطّي؟ أكيد. فأنا أريده أن يعرف أنّني أعرف ولكن ليس منّي مباشرة.
طوال النهار كنت أتوقّع أن يفتح الباب في أيّة
لحظة ويدخل غاضبًا غير أنّني هذه المرّة لن أخاف منه وسأواجهه لأنّني على حقّ وهو
المخطئ. سأصرخ في وجهه وأقول:
(أين قصّرت معك في واجباتي كي تخونني؟ كنت
زوجتك المطيعة وأنجبت لك ثلاثة أولاد، وأدرت شؤون بيتك الذي تريده نظيفًا وأنيقًا
ومرتّبًا. وكنت تريد منّي فوق ذلك، وبعد الانتهاء من عملي أن أقرأ الكتب التي
تتركها لي قرب السرير، أو مقالات الصحف التي تتركها عمدًا في الحمّام والمطبخ
وتسألني عند عودتك إن كنت قرأتها وما رأيي فيها. هل تعرف ماذا يعني أن تهتمّ
بثلاثة أطفال وأن تذهب إلى العمل في صندوق الضمان حيث لا يتوقّف الناس عن الثرثرة
وتقديم الطلبات والشكوى والتدافع؟ تريدني أن أعود مبتسمة هادئة؟ من أين آتي
بابتسامة واحدة وكلّ ابتساماتي أهدرتها لحاملي معاملات لا يعجبهم العجب؟ هل يزعجك
ألاّ أحبّ الموسيقى التي تحبّها؟ ولكنّ الضجيج يملأ رأسي فكيف أجد مكانًا
للموسيقى؟)
لن أسكت وسأواجهه كي يعتذر منّي.
ولم تتأخّر المواجهة. ففي اليوم نفسه عاد إلى
البيت ولحق بي إلى المطبخ حيث يعرف أنّني سأكون موجودة لأحضّر العشاء للأولاد وله
في حال قرّر أن يتناول الطعام معنا. جلس إلى طاولة المطبخ وقال لي:
(أريدك أن تتركي ما في يدك وتجلسي قبالتي).
غسلت يديّ وجفّفتهما وجلست حيث طلب منّي أن
أجلس. وبدأ يتكلّم. تكلّم كثيرًا ولوقت طويل حتّى أنّني تمنّيت لو كانت لي الجرأة
لأصرخ به كي يصمت. ولكنّي ما اعتدت أن أرفع صوتي في وجهه، ولن أفعل الآن. نسيت كلّ
ما أردت قوله وصمتت. خلاصة ما قاله أنّه يحبّ تلك السيّدة (هكذا سمّاها)، يحبّها
من كلّ قلبه، وأنّه لم يفكّر حتّى الآن ماذا سيفعل، وأنّه يحذّرني من معاودة
الاتّصال بها أيًّا تكن الأسباب والظروف، وإلاّ فسأخرب بيتي بيدي. هكذا، بكلّ
بساطة صرت أنا المسؤولة عن خراب بيتنا وهو لا ذنب له في ما حصل وأنّه لم يختر أن
يقع في الحبّ وأنّه يحترمني ولن يؤذيني أو يؤذي أولاده.
أمضيت عشرين عامًا بعد ذلك وأنا أعيش مع رجل
يحترمني ولا يريد أن يؤذيني أو يؤذي الأولاد. كنت أعرف أنّه سيترك البيت نهائيّا
متى كبروا. سامي كان في الخامسة حين اكتشفتُ علاقة والده بتلك المرأة وندى ونادين
كانتا في الرابعة. كنت أراهن على أنّه لن يتركهم ما داموا صغارًا، وكنت أقول
لنفسي:
(حتى يكبروا يكون قد ضجر، لن تدوم هذه العلاقة
طويلاً).
من أين لي أن أعلم أنّه سيحبّها كلّ هذا الوقت
وأنّه سيموت بعدها بقليل؟"
هناك تعليقان (2):
رائعة وراقية
شكرًا فادي على اهتمامك ورأيك
تحيّاتي
إرسال تعليق