أن
يصير العَيش خاليًا من جوهر وروح
منذ عام تقريبًا، مجموعة من المسرحيين
الشّباب في "دار النّدوة" لعمل مسرحي من غسّان كنفاني: "القبّعة
والنّبيّ" تحيّة له في الذّكرى العشرين لوفاته كما في بطاقة الدّعوة.
صحافيّة شابّة محرّرة ثقافيّة في مجلّة
أسبوعيّة جاءت لإعداد تحقيق عن الموضوع وقابلت الممثّلين، وكانوا ثلاثة، والمخرج،
ولم يبق عليها سوى الكاتب!
سألت تلك الشّابة: أين غسّان (كنفاني
طبعًا)؟
المخرج الشّاب صار إلى هيئة علامة
التّعجّب!
الشّابّة المحرّرة الثّقافيّة عاودت السؤال: أين
الكاتب؟... كاتب المسرحيّة تقصد. أي غسّان كنفاني وفي نيّتها حوار معه حول العمل!
غسّان مات يا آنسة. أجابها المخرج إذ استفاق من ذهوله
لغباوة السّؤال وجهل السّائلة.
الذّهول كان هذه المرّة من نصيب الآنسة، التي أخذت على
غرّة فسارعت إلى رسم علامات الحزن والأسى اللاّئقة بهذا الموقف المفاجئ، وبنبرة
مكسورة سألت: متى؟
أجابها المخرج وبدأ صبره ينفد: منذ عشرين عامًا يا آنسة
وهذه المسرحيّة في ذكراه العشرين كما في بطاقة الدّعوة التي وصلتك أو وصلت إلى
المسؤول عنك في المجلّة. إرحمينا ... رحم الله موتاك.
أسقط في يد المحرّرة الثّقافيّة وغادرت مسرعة مكتفية بما
تيسّر لها من مقابلات تخلو من لقاء مع "الكاتب" سائلة الله أن يكون
مسؤول القسم (الثّقافي طبعًا) في مجلّتها الغرّاء على علم بنبأ وفاة غسّان كنفاني
منذ عشرين عامًا وبصعوبة الحوار معه في الوقت الحاضر.
بعد أسبوع كان توقيع الآنسة على أسفل الصّفحة الثّانية
لتحقيق عن العمل المسرحيّ الممتع، وعن غسّان كنفاني المبدع وما تركه من أثر لا
يمحى في الأجيال الطّالعة... إلى الأسفل.
لا أسوق هذه الحادثة للسّخريّة أو التّهكم وللآنسة أمثال
ومثيلات يتوزّعون الصّفحات. وأحدهم سألني مرّة، وكنت أعود من غزير حيث انعقد لقاء
في الذّكرى السّادسة لوفاة يوسف الخال نظّمه "صالون العشرين"، سألني: شو
عملّو شي تفنكة جديدة يوسف الخال. (هل أقدم يوسف الخال على بدعة جديدة) وكان يقصد
الإيحاء أنّه سمع بيوسف الخال ويعرف من هو. وإحداهنّ أنبأتني، مرّة، "إنّ
إيليّا أبو ماضي آتٍ عبر المطار في الثّامن عشر من الشّهر" ورجتني أن أهتمّ،
كصحافيّ، بالموضوع. يومها نسيت أن أسألها عن أحوال الياس أبو شبكة.
هذه النّوادر أكثر من أن تحصى. وعلى قدر ما هي مضحكة
للوهلة الأولى محزنة وترسم صورة عن المنحدر الّذي سارت إليه الأحوال في
"الزّمن المكسيكي"... حتّى في القراءة والكتابة. وإليكم هذا النّموذج من
"النّقد المكسيكي"... "يكتب مباشرة بأسلوبيّة مباشريّة غير
مباشرة..." وهذه الجملة مأخوذة حرفيًا من مقال ل"ناقدٍ" شاب يتناول
فيه كتابًا ما. أقول "ما" لأنّه يصعب على القارئ بعد الانتهاء من
المقال، أن يفهم فحوى الكتاب الّذي يتعرّض له، لا مباشرة ولا غير مباشرة. أمّا
المباشريّة فبشّر الّذين آمنوا بمستقبل الكلمة إنّ لهم جهنّم وبئس المصير.
إنّها حالة جهنّميّة بامتياز ينحدر إليها اللّبنانيّون
سريعًا، ولكم أن تتخيّلوا طبيعة الإجابات في الشّارع لو كان السّؤال: من هو أمين
نخلة؟ أو ماذا تعرف عن مارون عبّود؟ ومن كان يوسف الخال؟ وأنا واثق أن لا أحد من
اللّبنانيّين يجيب بأنّه لا يعرف أو لم يسمع بهذا الإسم أو ذاك. بل كلّهم عرف وسمع
وله الإجابة الواثقة.
أمين نخلة شابٌ موهوبٌ حاز الميداليّة الذّهبيّة من
"استوديو الفن" وتسلّمها من روميو لحّود".
مارون عبّود... ولو مصمّم الإعلانات الشّهير، نال
"الأرزة الذّهبيّة" من وزير الثّقافة ميشال إدّه في دعاية
"ونستون"
يوسف الخال، ممثّل لبنانيّ معروف من فئة
"المرعشليّ" أعار صوته ل"أنطونيو" في الدّبلجة اللّبنانيّة
المنطلقة على غاربها.
أمّا الطّامة الكبرى فهي لو فكّرنا في السؤال عن إحدى
الكاتبات مثل سميرة عزّام أو حنان الشّيخ. وأي لبنانيّ تسأله اليوم عن أيّ اسم
أنثويّ يظنّه فورًا "شمس الغنّيّة" نجوى كرم أو "ماريّا
مرسيدس" وفي أحسن الأحوال "شمبانيا" الرّقص الشّرقيّ في
"الكارلوتشي" أو هويدا الهاشم في "الكارت بلانش" وللسّهر
عنوان.
والعنوان الوحيد الأحد في حياة اللّبنانيّين اليوم هو
السّهر كلّ خميس وجمعة وسبت مع "ماريّا مرسيدس" من ال(L.B.C) أو
"ماريّا إيلينا" من ال(M.T.V)، والحرب المكسيكيّة الضّروس تتواصل بين
المحطّتين. فيما تشير آخر الإحصاءات إلى إنّ نسبة قرّاء المطبوعات في لبنان، على
اختلافها، جرائد ومجلاّت وكتبًا، لا تتعدّى السّتّة في المئة. وهذا الرّقم المخيف
في تدنّيه يدلّ إلى كلّ القرّاء وفيهم قرّاء "صوت العدالة"
و"روايات عبير"، فما بالنا بقرّاء الأدب الّذين هم، على الأرجح واحد في
المئة، أي كتّابه وقرّاؤه في آن.
هذه الصّور لوقائع العيش اللّبنانيّة والجهل المطبق على
الحياة اليوميّة والإنحطاط المتسارع، إنّما تتجلّى أكثر مع صعود فئة جديدة من
النّاس من أثرياء الحرب والميليشيات أو من
أولئك العائدين قسرًا من الخليج وأفريقيا حاملين معهم أموالهم وقيمهم وأنماط
عيشهم، ومع زوال الطّبقة الوسطى من الحرب والضائقة الإقتصاديّة، وتاليًا اختلال
التّوازن الإجتماعيّ في شكل رهيب، وإذا كانت الطّبقة الوسطى تشكّل صمّام الأمان،
فإنّها كانت دائمًا منتجة لقيم وأنماط مختلفة عمّا نراه سائدًا حاليًا. ومع
التّحوّل الّذي أصاب الواقع الإجتماعيّ اللّبنانيّ يمكننا أن نضيف إلى المظاهر
السّالفة، ظاهرة الصّحف والمجلاّت المكسيكيّة أسوة بالمسلسلات المكسيكيّة. وأعني
تلك الصّحف والمجلاّت التي تستغني عن الخير الثّقافيّ الأدبيّ في صفحاتها لتستبدل
به حيّزًا يحمل عنوان المجتمع أو النّاس. وهي صفحات تتكاثر استمرارًا وتتكاثر
الصّور المأخوذة من حفلات الفحش والبطر. لأنّ هؤلاء الأثرياء الجدد يبدون وكأنّهم
يذهبون إلى العشاء ليتصوّروا ويراهم النّاس لا ليأكلوا أو يسهروا ويشمّوا الهواء.
وإذا كان الثّريّ الحقيقيّ والأصيل يحرص على عدم إظهار ثرائه (تحقيق الزّميلة ميّ
ضاهر يعقوب في "النّهار") فإنّ الثّريّ الطّارئ أو المستجدّ لا يألو في
الإفصاح عن ثرائه بشتّى الوسائل المتاحة لديه على طريقة "شوفوني ما
أحلاني". ويفرض، تاليًا، قِيَمه وعاداته وسلوكيّاته على المجتمع الّذي يلبي
ويستجيب.
إلى هؤلاء، نلحظ في المظاهر المستجدّة على حياة اللّبنانيّين،
تلك الصّباحيّات النّسائيّة الوافدة إلينا في صحبة العائدين من الخليج، وهي
صباحيّات تقتصر على النّسوة، وتحديدًا على من اصطلح على تسميتهنّ "سيّدات
المجتمع"، وهي سلوك له مبرّراته في البلدان المقموعة والمكبوتة حيث العلاقات
الإنسانيّة محرّمة. أمّا هنا فهو ظاهرة نافرة وهجينة وغير مستحبّة لما تشيعه من
لون ينتمي إلى غير بلدنا وإلى غيرحياتنا.
ربّ سائل وما شأن هذه المظاهر في الثّقافة وشجونها؟
وجوابي إنّ هؤلاء استطاعوا أن يعمّموا ذائقتهم على البلد وباتوا يشكّلون، نتيجة
غياب الطّبقة الوسطى، وانكفاء النّخب المثقّفة، شرحة هي الأوسع من النّاس، وتاليًا
صار المنتج الثّقافيّ ـ الفنّيّ ـ يلبّي شروطهم ويضعهم في حسبانه أوّلاً، ومن هنا
نفهم المنافسة المحمومة بين محطّات التّلفزة على اجتذابهم، وكيف كانت المحطّة
الأنجح والأحلى، أي المؤسسة اللّبنانيّة للإرسال، أسرع في تلبية الذّائقة
المستجدّة وفي إغراق المساءات بكلّ أنواع الدّبلجة فضلاً عن المنوّعات، وجارتها في
ذلك المحطّة التي كان عليها رهان نخبويّ أي ال (M.T.V.)، وانطلقت
بين المحطّتين حرب على التّعميم والنّشر من خلال تلك المسلسلات المكسيكيّة التي
تكشف عن ذوقيّة خاصّة.
ولم ينجُ المسرح من الموجة الطّارئة، بل كان أولى
ضحاياها وقبل التّلفزيون، شاع فيه "الفودفيل" و"الشانسونييه"،
وما عاد المسرح للفئات الصّاعدة حديثًا سوى مكان للقهقهة وقرقعة الأمعاء والملاعق
وقرع الكؤوس، وفي لحظات انقلبت صورة المسرح، وصار المسرح يأتي إلى الّذين لا
يكلّفون أنفسهم عناء الإنتقال إليه، فتنقّلت الأعمال المسمّاة مسرحًا بين مقرّات
الرّؤساء والوزراء الجدد، وقبع المسرح الحقيقي في الظّلّ ومعه تقاليد مسرحيّة
عريقة تعود إلى زمن مضيء.
في اللّوحة التّشكيليّة لم يكن الوضع أحسن، كثير من
التّواقيع الباحثة عن جديد في الشّكل والمضمون وفي معنى الصّياغة التّشكيليّة،
كثير من التّواقيع التي أرادت أن تقول ذاتها وتجربتها، اضطرت إلى الإنكفاء أمام
الشّروط الإستهلاكيّة التي يفرضها السّوق ممثّلاً بصالات العرض وبالمشترين من
أصحاب المال الجديد. فيما عمدت تواقيع أخرى إلى المسايرة والمجاراة وإلى رسم ما
يشتريه النّاس... وأيّ ناس... ناس البطون أيّاهم.
خلف هذه اللّوحة القاتمة، أي خلف هذا الإبتذال العامّ
والإستهلاك، يكمن سبب واضح وجليّ هو المال وليس أيّ مال. إنّه المال الآتي بيسر
بلا عناء أو عرق، إلاّ عرق الآخرين، مال الأثرياء الجدد غير المحصّن بثقافة أو
معرفة. مال يشوّه الحياة بدل أن يجمّلها، يفقرها بدل أن يغنيها. يقابله في الجهّة
الأخرى ، الجهل الزّاحف إلى الصّحافة والكتابة حيث القراءة إلى زوال والكتابة من
حواضر البيت والرّزق على الله.
هل يعني هذا إنّ المعرفة والثّقافة هما ضدّ الحياة على
سجيّتها، ضدّ الفرح والعيش اليوميّ. العكس تمامًا هو الصّحيح. ما ينكينا ليس فرح
النّاس ولا بساطة عيشهم، إنّما أن يصير هذا العيش بلا معنى، بلا جوهر أو روح، وأن
تتفه الحياة على هذه الصّورة وتغرق الحياة اليوميّة في السّطحيّة وتعمّ المجتمع
القيم النّفعيّة. والكتابة في بيروت اليوم، تبدو في مواجهة مباشرة مع كلّ هذي
الآفات، الكتابة لإعادة الإعتبار إلى الإشياء، الكتابة لرفع المستوى اليوميّ،
لإعادة تصويب الإنسان. أو هو الزّمن يمضي ولا يلوي.
زاهي وهبي
جريدة "النّهار" الثّلثاء 14 أيلول 1993
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق