10
هل يكفي أن نقول إنّ الحياة ظلمت هذه المرأة كي نكون قد أعطيناها حقّها
وأنصفناها؟ ومن يستطيع أن يقول إنّ الحياة لم تظلمه؟ ولكن للظلم مراتب. وجولييت
كانت مؤمنة بأنّها أعطيت مرتبة متقدّمة بين المظلومين. هي صغيرة العائلة. تركت البيت
إلى المدرسة الداخليّة ثمّ إلى العمل لأنّ العائلة تحتاج بعد غياب يوسف إلى كلّ
قرش إضافيّ. فحبيب على الرغم من ثرائه بسبب التهريب كان عاجزًا عن مساعدة أحد
لأنّه وضع كلّ أملاكه وأمواله في عهدة زوجته التي كانت تخشى دوران دولاب الحظ مع
زوجها، وبالتالي لم تكن مستعدّة للمخاطرة بأيّ قرش قد يكون سندًا لها إن قتل زوجها
في عمليّات التصفية بين العصابات أو في أحسن الأحوال إن سجن لوقت طويل. بل كانت
زوجة حبيب تفرض على روز مساعدتها مدّعية أنّ ما كانت تملكه أكله المحامون.
من الواضح أنّ حبيب كان يثق بالمرأة التي اختارها شريكة حياة وعمل.
إذًا، كان على جولييت أن تجد عملاً في بيروت، فكانت الخدمة في المستشفيات.
وفي زمن لم تكن الشهادات مطلوبة بإلحاح بين الممرّضات، وفي بلد تفاجئه الحرب في
عزّ السلم، ويحتاج إلى خدمات طبيّة ولو غير محترفة، وجدت تلك الفتاة القصيرة
القامة عملاً تستفيد منه ومكانًا تقيم فيه. كانت الحياة في المستشفى بالنسبة إليها
عالمًا غريبًا لا يشبه ما كانت تعرفه وتأنس إليه. وتطلّب منها الأمر وقتًا طويلاً
قبل أن تألف الرائحة الغريبة التي تفوح من هذا المكان الذي تختلط فيه روائح الجراح
النتنة والدم المتخثّر بروائح المطهّرات والأدوية. ومضت أشهر طويلة من الأرق وجولييت
تعجز عن طرد أصوات الأنين وبكاء الأطفال من رأسها، وتشعر بالغثيان وهي تستعيد
رغمًا عنها صور الجراح التي تفغر أفواهها كأنّها تريد أن تبتلعها. في كلّ يوم
تكتشف مرضًا جديدًا، ومعاناة جديدة، فأخذت تعلّم نفسها كيف تقسو شيئًا فشيئًا كي
تستطيع الاستمرار. ولكنّها كانت تصرّ على الاحتفاظ بابتسامة قد تخفّف من وطأة ما
يعانيه المرضى وما تعانيه هي عندما تشهد على آلامهم.
ليست العلاقة مع المرض والألم هي وحدها ما طبع شخصيّة جولييت، كان شيء آخر
يتكوّن داخلها وهي تشهد كيف يصير عالم المستشفيات مختبرًا لما قد يشعر به الإنسان
أي ما يرغب فيه وما يهرب منه. وخلال تنقّلها بين مختلف الأقسام وصولاً إلى غرف
العمليّات كانت ترى وتسمع كيف يتحوّل الجسد في لحظة من قيمة إلى هباء. في البداية
آلمها أن يتعامل الأطبّاء والممرّضات مع جسم الإنسان بهذه القسوة متى غاب المريض
في عالم التخدير، أو متى كان في غيبوبة. كان شيء فيها ينبئها بأنّ المريض يسمع
ويعرف وعندما سيفتح عينيه ويستيقظ من البنج أو الغيبوبة سيعاتبها، لأنّها لم تدافع
عنه وهو عاجز عن فعل أي شيء. وتطلّب منها أن تنظر في عيني المريض، أيّ مريض، وقتًا
طويلاً، كأنّها كانت تريد أن تطمئنّ إلى أنّه لا يعرف شيئًا ممّا جرى حوله أو معه
أو على الأقل ليس واثقًا ممّا جرى.
أثارت جولييت إعجاب المحيطين بها بجرأتها في التعامل مع المرض على الرغم من
بساطة معلوماتها وقلّة خبرتها. بدا واضحًا للجميع أنّ تلك الفتاة تريد أن تتعلّم
وتثبت جدارتها، لذلك بدأ الأطبّاء يثقون بها ويشجّعونها على دراسة التمريض ليلاً
لكي تستطيع أن تترقّى في وظيفتها. غير أنّ الحياة كانت تعدّ شيئًا آخر لتلك الفتاة
البسيطة الذكيّة الشجاعة، كما كان يقول عنها كلّ من عمل معها. فحين دخل عيد إلى
المستشفى للمعالجة، واستدعيت جولييت لمساعدة الطبيب في تعليق المصل في يده، كانت
الحرب في أبشع مراحلها، والأسرّة في المستشفيات ملأى بالجرحى، وبرّاداتها تنتظر من
بقي حيًّا ليأخذ معه من مات، ولم يكن غريبًا أن يوجد بعض الأحياء بين جثث الموتى
الذين لم يجدوا جوارير يخبّئون فيها عريهم وإصاباتهم، وكان كلّ حيّ يتشبّث بحيّ
آخر لعلّهما معًا يقاومان الموت أو على الأقل يستفيدان من آخر لحظات الحياة.
في هذا المكان حيث يتجاور الموت مع الحياة، ويولد أطفال لا يعرفون ما ينتظرهم
بعد قليل إن بدأ القصف، ويموت شبّان لا يعرفون ما سيكون مصير القضيّة التي قاتلوا
من أجلها وقُتلوا بسببها، تقاطعت درب عيد الآتي من دير الصليب ودرب جولييت التي
كادت تفقد صوابها وهي تنام وتصحو وتعمل في المستشفى ولا تجد مكانًا تهرب إليه في
أيّام الإجازة، لأنّ الطرقات إلى البقاع خطرة أو مقطوعة، ولن تزعج وردة التي تبرمج
حياتها على إيقاع حياة ناجي.
(جولييت)
"لولاي لمات كثير من الجرحى في المستشفيات التي
عملت فيها. فبعدما أنقذت تلك الطفلة المصابة في ظهرها وأخرجتها من بين الجثث التي
كدّست فوق بعضها نذرت نفسي للتأكّد من أنّ الذين ينقلون إلى برّاد المستشفى موتى
لا مصابون غائبون عن الوعي. كانت تلك الليلة واحدة من مئات الليالي العنيفة التي
لم نعد نملك أرقامًا كافية لإحصائها: ليلة من القصف المتواصل العنيف حتّى صار
الواحد منّا يتمنّى لو يموت لينجو من هذا الضجيح الذي يمزّق الأعصاب ويدّمر خلايا
الدماغ ويشوّه أجمل ما يمكن أن يكون عليه الإنسان. أصوات قذائف منطلقة، وأصوات
قذائف تسقط، وبكاء وصراخ وأنين وسيّارات مسرعة تصل وترمي حمولتها من الأجساد
الغارقة في دماء بعضها، ونحن علينا أن نحصيها ونفرزها ونرسلها إلى حيث يجب أن تكون.
وفجأة صرخوا بنا:
(لا ترسلوا جثثًا أخرى إلى البرّاد، لم يعد فيه مكان.
وضعنا الجثث مع بعضها ولم يعد عندنا مكان).
كوّمنا الجثث
على الأرض في زاروب بين المستشفى وحائط الحديقة المحترقة. قلنا البرد "يحميهم"
في انتظار مكان لهم. بقينا طوال الليل نروح ونجيء، في البداية كنّا نوصل الجثّة
ونضعها على مهل فوق غيرها، ثمّ صرنا نسرع في وضعها، ثمّ صرنا نرميها لنعود
بالأغطية والأسرّة المتحرّكة لنأتي بغيرها كأنّنا إن تأخرنا حسم مبلغ كبير من
راتبنا. على الأرجح أنّنا تعبنا وبردنا. تحوّلنا، جثّة بعد جثّة، آلات لا إحساس
فيها ولا عاطفة. منذ زمن جفّت الدموع على قتلى الحرب.
قبل الفجر، سيطر
هدوء غريب كأنّ المقاتلين قرّروا مجتمعين أن يأخذوا استراحة، فخرجت لأدخّن سيكارة
قرب الجثث المغطّاة بأغطية من لون الدم. لماذا هناك؟ لا أدري. ولكن لماذا ليس
هناك؟ وخارج المستشفى كلّه حرائق وأتربة وشظايا وجثث. هناك أو هناك أو هناك. ما
الفرق؟ الموت في كلّ مكان. وهناك سمعت الأنين والبكاء. لم أنتظر كي أتأكّد. ذلك لا
ينفع حين يكون هناك احتمال حياة بين الجثث. رميت السيكارة وأزحت الأغطية ففاجئني
الدفء المنبعث منها في تلك الليلة الشتائيّة الباردة، كأنّ الموتى يحضن بعضهم
بعضًا، وهي كانت بينهم. هل أعطوها بقايا دفء خلاياهم لتنجو؟ وهل هي سعيدة الآن
بنجاتها؟ لا أعلم. لم ألتقِ بها منذ زمن.
اسمها ديمة تلك
الطفلة الشتائيّة التي تحمل اسم المطر. رموها، رميناها، بين الموتى وفيها نبض
حياة. أخرجتها من رحم الدفء والدم، وحملتها ونقلتها إلى الداخل. هل أنا من تسبّب
بشللها النصفيّ لأنّني حملتها؟ لا أعرف. الأطبّاء قالوا لي لا، لست أنا من أصابها
بالشلل بل الشظايا التي فتّتت عمودها الفقريّ ومزّقت نخاعها الشوكيّ. صدّقتهم.
أراحني أن أصدّقهم. لم نعرف اسمها ومن هي إلاّ بعد يومين، حين أحصينا الجرحى
والموتى واكتشفنا أنّ شقيقها قتل وأنّ والدتها تشوّه وجهها وفقدت نظرها. في حين
أصيب والدها الأعمى إصابات بالغة في يديه وصدره. ماذا نسمّي ذلك؟ أهو غضب السماء
أم سخريتها؟ هل من صفة لمصيبة كهذه: تتزوّج المرأة رجلاً أعمى، فلا تجد الشظايا
إلاّ وجهها تدرزه درزًا فتشوّهه وتسرق منه النظر، ربّما كي لا ترى كيف صار ذلك
الوجه؟ والابن الوحيد قتل، والطفلة الوحيدة شلّت رجلاها. هل من صفة لحالة كهذه؟
هذه هي الحياة التي ظننت أنّني سأنجو منها حين هربت مع
عيد".