التربية في اللغة تعني التهذيب... فالمربّي هو المهذِّب!
والتثقيف في اللغة هو تقويم الرمح، واستعير المعنى لتهذيب النفس، أي تقويم اعوجاجها.
لن ندخل أكثر من ذلك في معاني الكلمات المتعلّقة في مجال التربية والتعليم والتثقيف، كي لا نحيد عن جوهر الموضوع، وهي التمييز والربط (في وقت واحد) بين التعليم والتربية والثقافة.
1- لا يعرف أكثر القيّمين على شؤون التلامذة كيف يفصلون في المعنى والتطبيق بين التعليم والتربية. أو على الأقلّ لا يعرفون كيف يحوّلون النظريّات التي تعلّموها واقعًا معيوشًا، لا صراع فيه على صلاحيّات، يذهب المتعلّم ضحيّتها كيفما انتهت الأمور.
ومن نافل القول التأكيد على تداخل المفهومين، فالمعلّم مربٍّ والمربّي معلّم. ولكن عند التطبيق نجد من الضروريّ فصل المسارين لإعطاء كلّ ذي وظيفة حقّه. فالتربية تساهم في تحضير التربة حول المتعلّم الذي يمكن تشبيهه بشجرة يانعة. أي إنّ مدير المدرسة يهيّئ الفريق التربويّ في مدرسة ما كمزارع يختار التربة الصالحة لاحتضان هذه النبتة أو تلك، أي إعداد كلّ ما يسمح للمتعلّم بتلقّي العلم: نظام، نظافة، هدوء، إضاءة، مراقبة الشأن الصحّي، حسن سير المنهج، توزيع برنامج الامتحانات، تنسيق الأنشطة، مراقبة الملعب، العلاقة مع الأهل... فيأتي الفريق التعليميّ (منسّقون ومعلّمون) ويضع في هذه التربة، عند جذع النبتة وجذورها الغذاء الضروريّ والمناسب، ويعالج أمراض ضعفها، كي تستقيم حياتها، فيمدّها بالغذاء والمياه، لتنمو النبتة بثبات وعافية، وتصير شجرة يجري نسغ الثقافة في جذعها وأغصانها وأوراقها وثمارها... بعدما حوّلت ما في التربة وما أعطيت من عناية إلى عصارة حياة.
فلا تضارب مصالح ولا نزاع على السلطة، ولا تدخّل أحد في شؤون أحد، بل تعاون وتكامل من أجل تأمين بيئة سليمة ينمو فيها المتعلّم/ الشجرة.
فإن كان المدير التربويّ/ الإداريّ يعمل بشكل أفقيّ على مستوى القسم الذي يدير شؤونه، ومنسّق المادّة يعمل بشكل عاموديّ من أصغر الصفوف إلى أعلاها... فليس كي تُصلبَ المدرسة على تقاطعهما...
فإن كان المدير التربويّ/ الإداريّ يعمل بشكل أفقيّ على مستوى القسم الذي يدير شؤونه، ومنسّق المادّة يعمل بشكل عاموديّ من أصغر الصفوف إلى أعلاها... فليس كي تُصلبَ المدرسة على تقاطعهما...
2- التربية تسبق التعليم. لذلك فاسم الوزارة المعنيّة عندنا مثلًا هو وزارة التربية والتعليم العالي. كأنّ المقصود القول أنّ ثمّة ما قبل التعليم الجامعيّ "العالي" مرحلة طويلة من الإعداد النفسيّ والجسديّ والعقليّ والروحيّ والاجتماعيّ... لجعل التلميذ حاضرًا للانتقال إلى مرحلة طلب العلم، فيصير طالبًا جامعيًّا. لذلك فإعداد شخصيّة التلميذ في مرحلة الدراسة ما قبل الجامعيّة أهمّ من كمّية المعلومات التي يملأ بها رأسه. وفي هذا العصر تحديدًا صارت التربية أكثر أهميّة مع انتشار المعلومات عبر الإنترنت ووسائل التواصل والإعلام والإعلان... فمن السهل أن يجد التلميذ معلومة لكن من يعلّمه أو يربّيه على استخدامها في سبيل خيره وخير البشريّة جمعاء.
3- ليت في الإمكان التخلّي عن مصطلح التربية لصالح مصطلح التهذيب... تهذيب النفس والعقل وتعويدهما على الجمال والحقّ والخير والمحبّة وطلب المعرفة. أو ليت في الإمكان إلغاء تعبير "تربية الحيوانات"... لنفصل في اللغة العربيّة أوّلًا وتحديدًا بين تهذيب الإنسان والاهتمام بالحيوانات... وإلّا اختلطت الأمور وكُرِّم الحيوان وأهين الإنسان...
4- التهذيب يعني في ما يعنيه الاحتفاظ بالشخصيّة الأساس (للمتعلّم)، ثمّ العمل على تشذيب (كما نفعل مع الأشجار) الزوائد والشوائب التي تعيق النمو... فما من مزارع يشذّب شجرة أو نبتة فيقضي عليها... إلّا كان جاهلًا ... ولا مكان للجهل مع العلم...
5- الضبابيّة التي تحيط بهذه المسألة تضع العمل في الشأن التربويّ والتعليميّ في متاهة كبيرة، تلهي العاملين عن الاهتمام بالتلميذ لأنّ الجميع مشغول بالبحث عن مَخرج. ولا ينفع الاستشهاد بالنظريّات عند التطبيق إن لم تكن الأرضيّة مهيّأة لتلقّي هذا الكمّ من المعلومات التربويّة والتجارب التعليميّة. فلو استغلّ المدير التربويّ وقته في إعداد الأرض حول الأشجار تاركًا للمهندس الزراعيّ أي المسؤول عن الموادّ التعليميّة أن يمدّها بعصارة خبرته... ولو وضع المسؤول عن المادّة معلوماته في خدمة العمل الفريقيّ، لكانت ثنائيّة العمل أنتجت مواسم خيّرة واعدة، تتدفّق فيها عصارة العلوم والآداب والفنون والرياضة دمًا جديدًا اسمه الثقافة.
6- نأتي هنا إلى ما يسمى بالأسبوع الثقافيّ الذي باتت المدارس تتنافس في الإعداد له والتباهي به ونشر أخباره في الصحف. الأسبوع الثقافيّ ليس أمرًا منزلًا، أو طارئًا، أو غريبًا، يُقحم إقحامًا في الجسم المدرسيّ. بل هو نتيجة مسيرة تبدأ الخطوة الأولى منها في أوّل يوم وصل فيه التلامذة إلى المدرسة مع بداية السنة... لتنتهي رحلة الألف ميل في أسبوع يأتي تلقائيًّا، وعفويًَا، وطبيعيًّا، بلا بهرجة مخادعة أو مهرجانات صاخبة أو فورات غضب أو تنافس أو تسابق أو توتّر أو تعب أو عتب... وإلا ضاع الهدف الأوّل منه وهو تثقيف النفس أي تهذيبها.
وما من موضوع محدّد للأسبوع الثقافيّ... فالثقافة التي تتنوّع تعريفاتها، ويختلف الفلاسفة والدارسون والمفكّرون في تحديدها، يمكن وضعها في أبسط وجوهها مع المتعلّمين في المدارس... أي هضم ما تعلّموه ليصير جزءًا منهم... فالثقافة لا تميّز بين علم وأدب وتاريخ وفنّ وجغرافيا... ولا فضل فيها لمادّة على أخرى، ولا هيمنة للغة على سواها، بل انصهار كليّ في بوتقة واحدة اسمها المتعلّم، هو في البداية والنهاية نقطة ارتكاز العمل التربويّ وغايته.
7- لعلّنا في أمسّ الحاجة إلى ثورة تربويّة، لا ترى بين تربية الأولاد وتربية الحيوانات الأليفة شبهًا ولو بسيطًا، ولا تجعل التعليم على قياس مسؤول أو معلّم أو مراقب أو مناظر، ولا تخاف من التغيير والتحديث والاعتراف بالخطأ، ولا تدّعي الكمال أو نهائيّة المبتغى...
ثورة تربويّة لا تقديس فيها لمعلّم، ولا خوف من أهل تلميذ، ولا صنميّة لمنهج، ولا تبعيّة ولا تقليد...
ثورة تربويّة تمقت "الدروس الخصوصيّة" وتعاقب مرتكبيها،
ثورة تربويّة تجعل التلميذ يرغب في المدرسة لا راغبًا عنها،
ثورة تربويّة تعيد الاعتبار للشعر على أنّه لغة الله، وللأرقام على أنّها وسيلة لفهم العالم والتفاهم معه لا غاية تُبرّر الوسائل من أجلها،
ثورة تربويّة تسعى لتهذيب عقول الناشئة لا لتذهيب إطارات الشهادات...
ثورة تربويّة ضدّ الظالم أيًّا تكن طائفته وجنسيّته، ومع المظلوم إلى أن يحصّل حقوقه...
ثورة تربويّة ضدّ الظالم أيًّا تكن طائفته وجنسيّته، ومع المظلوم إلى أن يحصّل حقوقه...
ثورة تربويّة من أجل تعليمٍ لا تنتهي صلاحيّة استخدامه لا الاكتفاء بتعليبِ أفكار وعقول في كبت التحجّر والخوف...
ثورة تربويّة شعارها الحوار لا التلقين، التقدّم لا النجاح، التعلّم لا العلامات، الفهم لا الدرس، الاكتساب لا الامتحان، الغناء لا الببغاء...
وبغير ذلك... يبدو مشوار التغيير طويلًا وشائكًا ومرويًّا بدموع أطفال يرون المدرسة سجنًا... فينتقمون منها عند التخرّج، تكسيرًا وتخريبًا...