Newounsa، هو الاسم الذي اختارته صاحبة محلّات الألبسة النسائيّة الراقية صونيا وازن كفوري، لتعلن عن ذوقها الفنيّ الراقي في تكوين (وتلوين) امرأة جديدة، جوهرُها الأنوثة ورداؤها الجمال.
ولأنّها كذلك، لم يمرّ خبر وفاتها بعد صراع طويل مع المرض من دون أن يثير في بالي تساؤلات عن صناعة الجمال، وإن كان صانعوه يرحلون فعلًا. فصونيا وازن كفوري، كانت تحترف التجارة طبعًا، ومتاجرها التي تنضح بالرقيّ والذوق والأناقة تعبّر عن حسّ إداريّ دقيق وناجح. لكنّها، محوطة بزوجها وابنتها وابنها، كانت أكثر من مجرّد صاحبة محل للألبسة النسائيّة تريد أن تربح ثروة من بيع ملابس ثمينة؛ كانت فنّانة ذات رؤيا جماليّة تندر اليوم بين أصحاب المتاجر. ولم تكتفِ بذلك، بل كان استقبالها يفضح رغبتها في نشر الجمال حولها، وإلباس النساء اللواتي يقصدنها بشكل يجعلهنّ جديدات ومثيرات وأنيقات ومحترمات في الوقت نفسه.
لعلّ متاجر أخرى نافستها على أسماء ماركات عالميّة، وربحتها، لكنّ هذه الماركات نفسها فقدت الكثير الكثير من سحرها حين غادرت متاجر Newounsa، لأنّ ذوق صونيا وابنتها كارولين لم ينسّق إنتاجات هذه الماركات ولم يعرضها كما يليق بها.
وحين وصلتني رسالة نعيها من المتجر الأنيق الذي أقصده كلّما أردت أن أهدي نفسي قطعةً فريدة غير سائدة أو منتشرة، اكتشفت كيف أنّ تلك المرأة صنعت نمطًا من الموضة يجمع بين الرفاهيّة والرقيّ، وبالتالي صنعت امرأة جديدة، ترتدي ما يلفت الانتباه بهمس، بلا صراخ أو وقاحة أو تحدٍّ.
ولأنّها فعلت ذلك، بمحبّة لا خبث فيها ولا مسايرة، وبوضوح التاجرة الذكيّة والفنّانة التي تعرف قيمة ما تعطيه، ساهمت في صناعة الجمال الذي لا يذبل ولو عتق طراز الفستان، والذي لا يهترئ ولو قَدُم عهد شرائه... وهذا ما نحن في أمس الحاجّة إليه في زمن البشاعة والأنوثة المتاجَر بها.
***
صانعُ جمال آخر رحل سريعًا وباكرًا هو عصام بريدي. أثار بموته عاصفة حزن غريبة ومفاجئة، كغيابه تمامًا. وهو وإن كان شابًا لم يترك بعدُ بصمات فنيّة كبيرة، لكنّه بشخصيّته اللافتة كان فنّانًا صادقًا مع نفسه ومع جمهوره. لذلك واكبت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ خبر موته ومأتمه بشكل غير مسبوق، كأنّ الناس بعفويّة لم تغب عنهم، على الرغم من أربعين عامًا من الحرب والاقتتال والفساد، يكرّمون، بدموعهم على عصام، الطيبة والضحكة والتواضع والحياة الهادرة كشلّالات لبنان وينابيعه الصافية.
عريس السماء كما صار لقبه، قضى في حادث سير سخيف ولو مروّعًا. لذلك قد يقول قائلون هو ليس شهيدًا مات وهو يؤدّي واجبه، وليس انتحاريًّا فجّر بنفسه من أجل قضيّة، وليس ضحيّة قصفِ نظام غاشم أو اعتداء سافر كما يحصل في بلداننا الملعونة بالحرب والإرهاب والديكتاتوريّة والفساد والأصوليّات... فما الذي فعله حتّى استحقّ هذا الاهتمام؟
صحيح أنّ آلاف الأشخاص الأبرياء يقتلون كلّ يوم، في فلسطين المحتلّة، وسوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، ويموت آخرون في أماكن كثيرة في العالم لا مجال لذكرها، وكلّ هؤلاء يستحقون دمعنا وحزننا، لكن لا بأس إن بكينا أيضًا وحزنّا على صانع جمال لم يُرد من الحياة مركزًا أو منصبًا، ولم يؤذِ أحدًا، فلم يفعل سوى ترك ذكريات جميلة، وابتسامات مضيئة. لا بأس إن تركنا العنان لإنسانيّتنا كي تتأثّر على غياب فنّان واعد، قضيّته بسيطة بساطة قلبه وإيمانه وهي أن يوزّع الفرح، لا أن يزرعه. فالزارع ينتظر الموسم الذي قد يتأخّر، وعصام كان مستعجلًا...
في مأتم عصام، رأيت الناس يحتفلون بإنسانيّتهم، فلم يشاركوا بدافع الواجب المفروض، أو لمسايرة عائلة زعيم يعِدهم أولاده بوظائف ومنح دراسيّة، كان كلّ منهم يتذكّر أنّه إنسان، لا يريد أن ينسى الطيبة التي فيه، أو الحنان الذي فيه، أو الوفاء الذي فيه.
رأى كثيرون في موت عصام درسًا لسائقي السيّارات المسرعين، لكنّي أحبّ أن أرى فيه أيضًا رسالة في المحبّة والابتسامة اللتين جذبتا الناس إليه في حياته وموته. وربّما رأى كثيرون سواي في مشهد النعش المفتوح وهو يمتلئ بالورود البيضاء ما يشبه دفن المسيح يوم الجمعة العظيمة، لكنّي أحبّ أن أرى أيضًا في احتفال الرحيل مهرجان قيامة مجتمع، لا يزال مصرًّا على البقاء في مواجهة التهجير والموت والإرهاب.
عصام بريدي، على حداثة عمره، من رعيل الفنّانين الكبار المتواضعين، صانعي الجمال القدّيسين، الذين أعطوا بمحبّة فكوفئوا بالمحبّة.
***
لا يحتاج ريمون جبارة، صانع الأحلام والجمال، أن أدلي بشهادتي فيه. لكنّي أنا نفسي أحتاج إلى تذكير نفسي بشهادته فيّ حين قال لي، تعليقًا على مقالتي في ملحق النهار عن أيقونة المسرح رضى خوري، وذلك في لقاء ثانٍ وأخير معه: إنتِ شاعرة يا بنت!
في اللقاء الأوّل، قلت له محاولة رفعَ معنوياته: أنت غاضب على الفالج، لكنّك اختبرت ما قبل المرض والشلل والحاجة إلى الناس، فماذا أقول أنا؟ (مشيرة إلى إصابتي طفلةً بشلل رجلي اليمنى). فاجأه قولي ولم يجب.
رحل ريمون بعد صراع مع الحياة، لا مع المرض. مع الحياة، الحياة في لبنان، التي خذلته مرارًا وتكرارًا، حتّى اضطرّ في أواخر أيّامه أن ينتظر مساعدة وزارة الصحّة. وكم تسهل مصارعة الموت أمام مصارعة الحياة بما ومن فيها! فكيف إذا كانت الحياةُ حياةَ فنّان مثقّف أصيل ملتزم واضح صريح جريء نظيف؟ وكيف إذا كان الحياةُ في لبنان تحارب كلّ من يتميّز بهذه الصفات؟
ثمّة ما يجعلني أطمئنّ لأنّ ريمون جبارة ارتاح، ولكن ثمّة ما يثير قلقي أكثر فأكثر على لبنان الذي أحبّه... ثمّ أعود وأطمئن نفسي قائلة: ريمون جبارة يلاحق الله الآن بسيل من الأسئلة والمطالب، فلا خوف علينا!
شكرًا أستاذ ريمون على شهادتك فيّ، وعلى الجمال الذي علّمتناه مجبولًا بالحقّ والخير!
هناك تعليق واحد:
لكِ طول العمر
وأنتِ ترسمين جمالاتٍ مميّزة ...
إرسال تعليق