أنا وكتاب غابرييل عطو: مذكّرات ناسك مجنون - عن دار سائر المشرق |
حين طلب منّي غابرييل عطو قراءة نصوصه لأرى إن كنت تستحقّ النشر، تردّدت. وكان سبب تردّدي معرفتي بطبيعة لغته المتفجّرة كالنهر من جبل إيمانه القويّ؛ وهو إيمانٌ يصارع الشكّ في كلّ لحظة، ويتحدّى العقل كلّما أشرقت شمس الكلمة في رأس شاعرٍ أتى من اختصاص الهندسة إلى مجالات الفلسفة واللاهوت والشعر... تردّدت لأنّني أخشى ألا أفي نصوصه حقّها، وألّا أحسن النصيحة... ومع ذلك، تشجّعتُ وشجّعته!
في نصوص غابرييل ما يجعلني أخشى عليه من أفكاره، وهو الشاب الذي التزم البحث عن الحقيقة، متخليًّا عن الكثير من أجلها، حتّى ليكاد القارئ لا يصدّق أنّ شابًا في مقتبل العمر يكتب بمثل هذا العمق، وبمثل ذلك العنف، العنف الذي يريد أن يهدم الهيكل على رؤوس المتاجرين بالحقيقة. أخشى عليه من ثقل صليب الفكر والطريق طويل!
كنت أتمنّى أن أعرف آراء ثلاثة أشخاص في كتابات غابرييل عطو: الأوّل هو المونسنيور ميشال الحايك، رحمه الله. الثاني هو الأستاذ إيلي صليبي، أطال الله عمره وأمدّه بالصحّة والعافية، والثالث هو الدكتورة ناتالي الخوري، أنعم الله علينا بفضل قلمها بمزيد من الإنتاجات الفكريّة الفلسفيّة.
أمّا السبب الذي جعلني أتمنّى معرفة آراء هؤلاء فهو حاجتنا إلى هذا النوع من الكتابة الذي يجمع بين العلم والإيمان، بين المنطق والشغف، بين الفلسفة والدين، بين اللاهوت والشعر... والمونسنيور الحايك كان وسيبقى مدرسةً في هذا النوع الأدبيّ، والأستاذ صليبي وصل في عمق تأمّلاته إلى حيث يصعب علينا جميعًا الوصول، والدكتورة الخوري دارسة ناقدة نفذت إلى عالم الحايك وصليبي وصارت قادرة على وضع أسس لتيّار أدبيّ يحترم تجربتهما ويضيف إليها.
وإن كان الموت يمنع الكاهن الشاعر من تقييم تجربة عطو، فالبركة في أديبين (صليبي والخوري) جمعتهما الكلمة رغمًا عن مسيرة العمر.
صناعة الأديب رسالةٌ سمويّة، وكلّنا مدعوون إلى وليمة الكلمة: إعدادًا، ونقدًا، وتنقيحًا، وتسويقًا... وقراءة!
وهذا نموذج من أسفار باكورة غابرييل عطو الشعريّة/ الروحيّة، التأمليّة، الفلسفيّة...
سِفر الرؤيا
حولي من المجانين ما يكفي كي أصبح مجنونًا
لهذا فإنّ الجنون يتجوّل حرًّا في عقلي دون قلق
لهذا اعتبروني مجنونًا وتعاملوا معي...
لأنّ الأمور ستكون أسهل عليكم بكثير
المجنون يبعد خطوة واحدة عن المقدَّس
والعاقل يبتعد آلاف الأكوان عن المجنون
سيأتي يوم يُرجم فيه من يقدّم الصلاة للمقدّس
سيأتي يوم يرى كلّ شخص فيه الفضيلة التي تناسبه
وكأنّه هو مصدر الفضيلة
سيأتي يوم تختار الثمرةُ الأرضَ التي تقع عليها
سيأتي يوم تصبح فيه كلّ دور العبادة مصحّات عقليّة
سيأتي يوم نصبح فيه مدينين للحزن بكلّ فرحنا
لماذا لا توجد ساعة على شكل خطّ متعرّج؟
العالم بُحيرة راكدة وأنا حجر ملقى في هذه البحيرة
يقودني تمثال أعمى يتجادل معي على ضرورة الشكّ
من يعطي نصف الشيء... يعطي في الوقت نفسه
نصفَ اللاشيء أيضًا
المملكة لن تعرف نفسها والملك سيكون أوّل المنتحرين
تلك المملكة التي تترك عقلها عند البوّابة في الزاوية اليمنى غالبًا
أن يكون لك عقل في المملكة فهذا شيء حسن
لكن أن تستعمله... فهذا شيء قاتل
العاقل في المملكة... غالبًا لا يستعمل عقله
كلّ الحكماء في المملكة يجدّفون ضدّ العقل
فقولهم لولا هذا العقل... لما كانوا بهذا الشكّ
إنّ قيمة الحكمة في المملكة تنبع من قيمة الطاعة
لا من قيمة العقل
إنّ العقل في الرؤيا يمثّل مهرجانًا من المرايا فقط
إنّ العقل يعيش في عمق المحيط
كي يموت كلّ من يحاول الوصول إليه
تستطيع الرؤيا أن تتخيّل العقل... لكن، كما تريده هي
في الرؤيا لا تستطيع أن تفرّق بين إن كنت تحلم
أو إن كنت أنت الحلم
في الرؤيا لا يمكنك أن تعرف أحدًا
لذلك لا تخشَ أن تنسى أحدًا
في الرؤيا يمكنك أن تخاف من كلّ شيء إلّا من الخوف
في الرؤيا لا يوجد شيء يتّسع لكلّ شيء... حتّى الفردوس
الغابة تبحث عن شجرة
كما تبحث الساعة عن لحظة ضائعة
من الأفضل أن يُكسر وجه الماء
كي لا يرى العقل نفسه هناك
فإن رآه أحسّ بألم وجوده
ولن يعود بمقدوره أن يقضي قيلولته كما يريد
إنّ العقل في الرؤيا يجد نفسه حين يلغيها
إنّ العقل في الرؤيا لا يعيش إلّا إذا قتل نفسه
في الرؤيا لا يمكنك أن تخلق إلّا نفسك
في الرؤيا لا تعرف مصدر النور أو الظلام
أحيانًا لا أعرف كيف أعبّر عن شيء
لا تعرف الرؤيا التعبير عنه
أحيانًا نفضّل أنا والعقل أن لا نتحدّث
وإن كان لا بدّ من ذلك... فبلغات غريبة عن كلينا
متى ما رأينا الرؤيا... شاهدناها تحمل ساعة رمليّة في كلتا يديها
وتمشي على حبلٍ... إن انقطع
انقطع معه كلّ مجهول نعمل كلّ شيء لأجله
العقل والرؤيا عدوّا بعضهما وفي الوقت نفسه هما ضدّ العالم كلّه
الرؤيا هنا أو هناك... تبشّر بما لا يطاق
سيبقى الإنسان يقرأ هذه الكلمات طالما وُجد العقل
فإن مات العقل... ماتت هذه الكلمات!
هناك تعليق واحد:
قراءة هذه المقاطع تجعل الإنسان يعيد قراءة نفسه...
كلام يستحق أن يُقرأ
إرسال تعليق