لا أجرؤ على خلع ملابس النهار إلّا في ساعة متأخّرة جدًّا من الليل، ولولا بعض تردّد وحذر لكنت أويت إلى الفراش وأنا أرتديها. لا يعني ذلك أنّي مدمنة سهر في المطاعم والملاهي كما قد يفهم البعض من هذا الكلام، إنّما قابعة أبديّة على مقعد إلى جانب الباب في انتظار شيء ما.
شعرت دائمًا بأنّ ملابس النوم ستؤخّرني عن أعمال كثيرة تنتظر كي أقوم بها من دون أن أعرف مسبقًا مواعيدها وأمكنتها. لكن من الواجب أن أبقى مستعدّة كجنديّة في حالة استنفار.
وأكثر ما كنت أخشاه أن يموت أحد وأنا نائمة، لذا كان عليّ أن أسهر مصغية إلى صراخ سيخترق حتمًا سكينة الليل ليعلن رحيل شخص ما، وعليّ أن أسرع لأكون شاهدة على اللحظات الأولى التي تلي الوفاة، ولأسجّل الانفعالات الأولى والتعازي الأولى والتحضيرات الأولى والكلمات الأولى قبل أن يهذّبها الوقت وتتعبها المسافة، أو لعلني ألتقط الخطوة الأولى يخطوها الراحل على طريق الموت السريع. وكثيرًا ما استغرب أهلي وأهل الميت إصراري على التواجد قبل الجميع وعلى البقاء طويلًا كمن يخشى أن يغيب عنه أيّ تفصيل، وكم قاومت الرغبة في قضاء حاجة ملحّة خشية أن تفوتني نظرة أو كلمة أو دمعة. ولهذا السبب أيضًا كنت أمتنع، محتجّة، عن الحضور إلى منزل الراحل إن فاتتني المشاهد الأولى فأعاقب الأحياء وأكتفي بالذهاب إلى الكنيسة كسائر الغرباء.
ليس الموت وحده ما كان يدفعني إلى السهر، ولكنّي توقّعت دائمًا رحلة تنتظرني كي ألتحق بمركبتها السريعة المستعجلة غير القادرة على الصبر كي أخلع ملابس النوم، فقد يُقرع الباب، وقد يولول بوق سيّارة، وقد يرنّ جرس الهاتف، وقد ينادي أحدهم باسمي، ولا يجوز أن أتأخّر في الإستجابة لدعوة الرحيل.
ولذلك كانت تحرّكاتي في الوقت الذي يسبق الاستعداد للنوم بطيئة، أتعمّد خلالها تأخير واجبات مسائيّة ضروريّة، فإزالة قناع التجميل عمليّة تضاعف وقتها، ويتأجّل الاستحمام مرارًا خشية أن يعيق صوت المياه الصوت المنتظر. بيد أنّي في لحظة ما، أحسم الأمر، وأقطع الأمل، متذكّرة أنّ عليّ أن أنام، كما ينام ملايين البشر، على السرير، وفي ملابس النوم.
لا شكّ في أنّ إقامتي في منزل العائلة منعتني عن النوم على الكنبة التي إلى جانب باب المدخل الرئيسيّ، وكم قلت في نفسي لو أقمت وحدي لما احتجت على الأرجح إلى سرير ولا إلى قميص نوم. ومع أنّ وجودي بين أفراد الأسرة فرض عليّ أن أبدو طبيعيّة إلى حدّ كبير، إلّا أنّي في اللحظات التي تسبق قرار النوم أبدو متوتّرة قلقة كأنّي على موعد تأخّر تنفيذه. وكثيرًا ما سُئلت عن سبب اضطرابي وعن سرّ حركتي الدائمة بين غرفة النوم والباب المطلّ على الطريق، إلّا أنّ آمال الجميع خابت في الحصول على جواب مقنع.
المقعد الذي أجلس عليه استبدل مرارًا، والشقوق التي رسمها الزمن على خشب الباب محيت أكثر من مرّة تحت غطاء الدهان، وفي كلّ مرّة كنت أعود لأحفظ شكلها وتعرّجاتها، والطريق أمام البيت تغيّرت حدودها مع مرور الوقت، وأزيلت منها معالم وأضيفت إليها مشاهد، ومات كثر قبل أن أصل لأرافق عبورهم، ومرّت سيّارات ولم تتوقّف. أمّا أنا فما زلت أنتظر صوتًا يصرخ في سكينة الليل يدعوني لأشهد اللحظات الأولى لحصول شيء ما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق