ضيفة المدوَّنة السيّدة ميشا أبي عاد أبو مراد |
جلست تتذكّر كيف كانت في ذاك الزمن البعيد وفي يدها بعضٌ من خصلات شعرها المتساقط باستمرار.
أربعة أعوامٍ مضت منذ سلّمت دفّة حياتها لليأس، منذ رمت كلّ صراعاتها وثورة شبابها واستسلمت لقدرها.
لقد كانت تلك الصغيرة المجنونة، أتمّت أعوامها العشرين وما زالت تلهو بضفائرها، ما زالت تسير على الطريق متمسّكةً بدميتها بيد، كما لو لم يكن لها سواها، وتحمل بالأخرى ما تبقّى لها من حلوى قدّمها لها أحد المارّة شفقةً.
لقد كانت مناضلة رغم صعابها، ورغم وفاة والدها المبكرة ومرض أمّها ووقوع مسؤوليّة إخوتها الصغار على كاهلها. وكانت تلك البسمة لا تفارق وجهها الجميل رغم حاجته للعناية، بسمة تجذب الأنظار إليها، تبعث السلام والطمأنينة والفرح.
لقد اعتادت على حياة الفقر لدرجة أنّها ما عادت تبالي بثوبها الرثّ وملابسها الضئيلة وتشقّقات رجلين تخلوان إلّا ممّا تبقّى من جلدهما. فقد كانت تجول الطرقات بحثاً عن المساعدة، عن يدٍ كريمة تمتدّ للعطاء، ولكم تحمّلت من شتائم ولكم تألّمت من نظرات شفقة، أو اشمئزاز أو لوم أو ظلم......أو احتقار.
إلى أن أتى ذلك اليوم، وكانت في طريق عودتها إلى منزلها في المساء تجمع غلّتها، وعلامات الرضى بادية على محيّاها. فقد جمعت اليوم وبعد طول انتظارٍ ومعاناة، ثمن دواء أمّها واستطاعت أن تشتري لأختها تلك الفرشاة التي أعجبتها ولأخيها الصغير سيّارة تسير على جهاز التحكّم، مستغنيةً وللمرّة الألف عن ذاك الحذاء الذي يجول دائمًا ببالها.
ستبتاعه يوماً لنفسها، نعم ستشتري يوماً حذاء.
وإذا بأحدى السيارات تلفت انتباهها، إنّها السيّارة نفسها التي تراها كلّ ليلةٍ توصل ابنة الجيران وتنتظر دقائق معدودة قبل الإقلاع بسرعةٍ جنونيّة، لتغيب عن الأنظار في عتمة الشارع المؤدّي إلى منزلها.
تلك الليلة، على غير عادة توقّفت تلك السيارة على مقربةٍ منها وإذا بصاحبها يُنزل نافذته وينادي عليها ببسبساتٍ كما لو كانت هرّةً لطيفة لفتت أنظاره. إنّه على ما يبدو شابٌّ، ربّما في العقد الثالث من عمره، أبيض البشرة، شعره الأسود أشعث كما لو كان يعبث به منذ دهرٍ. نظّاراتاه تتّكئان على أنفٍ صغيرٍ رائع الجمال، تخفي خلفهما عينين داكنتين حال سواد الليل دون معرفة لونهما، شفتاه مكتنزتان زهريّتا اللون جالت فيهما لدقائق قبل أن تدرك أنّها ربّما أطالت التحديق. لا يشبه أحدًا ممّن رأتهم من قبل. ولكم عانق نظرها وجوهًا ووجوهًا! ولكن إن أصرّت على نفسها لأكّدت أنّه الأمير شهريار هاربًا من كتاب ألف ليلةٍ وليلة، يلبس بزّة جميلة ربّما هي حلّة العيد... ولكنّها تدرك في قرارة نفسها أنّها ملابسه اليوميّة بالنظر إلى فخامة سيّارته ورائحة عطره الثمين. آه من روعة هذا العطر والسيكار الذي يحترق سدًى وهو يبعث رائحته في الأرجاء.
حين رأت أنّه لم يبادر بالكلام أكملت طريقها لكنّه راح يتبعها بسيّارته. للمرّة الأولى في حياتها لم تشعر بذاك الخوف الذي لطالما تملّكها في مواقف مماثلة، بل راحت تنظر تارةً ببرودٍ وخجل وطوراً بوقاحةٍ كما لو كانت تحثّ "رفيق دربها" على الكلام، لكنّه أصرّ على التزامه الصمت، فما كان منها إلّا أن تابعت طريقها وما كان منه إلّا أن تابع اللحاق بها إلى أن اقتربا من منزل جارتها، إذا به فجأةً يغيّر اتّجاهه دون وداع، ولمَ يودّعها؟.... فهي ليست سوى تلك المتسوّلة.
في تلك الليلة وصلت إلى منزلها لتجد أنّ والدتها قد فارقت الحياة، بكت بكاءً مريرًا مصحوباً بشهقاتٍ وتحسّرات ثمّ فكّرت أنّها لن تترك شقاها يذهب هدرًا. غداً ستذهب لاسترجاع ما دفعته ثمنًا لدواءٍ ما عادت في حاجة إليه... نامت قرب تلك الجثّة الهامدة تحتضن يديها كآخر محاولةٍ لبعث الحياة فيها ولكن دون أمل. وأسوأ ما في الحياة أن تنطفئ شمعة الأمل.
في الصباح الباكر أطلعت شقيقيها على مأساة الأمس فما كان من أختها إلّا أن أجهشت بالبكاء. أمّا أخوها فقد اكتفى بشكرها على لعبته الجديدة وذهب إلى الركن المخصّص له من الغرفة ليجرّبها، فاحتضنت أختها محاولةً تصنّع حنان الأمّ، حنان لن تشعر به بعد اليوم، ثمّ وقفت ومسحت دموعها وانطلقت لعملها الدائم، مصدر عيشها.
بعد ما يقارب الشهر، عاد صاحب السيّارة للظهور. من المؤكّد أنّه علم بوفاة أمّها فقد نظر إليها نظرة شفقةٍ كانت بغنًى عنها وتمنّت لو لم ترها... وللمرّة الأولى بادرها بالتحيّة بصوتٍ رجوليٍّ عميق فردّت عليه بصوتٍ متقطّع غير واثقٍ ضعيف، بعدها وجدت نفسها في سيّارته تتنشّق عطره، وتنظر حانيةً رأسها، إلى المجهول دون أن ترى الشيء الكثير.
جال بها في الحيّ المقابل لحيّها وقد قال لها قبل الانطلاق: حاولي أن تسترخي فقد مررت بيومٍ عصيب، وهل يدرك هو ما اليوم العصيب؟ هل هو غبيّ لدرجة أن يجهل أنّ كلّ أيّامها سواء؟ هل يحاول فقط الترفيه عنها بفعل الشفقة؟ هل سيحاول احتضانها؟..... يا ليته يفعل فقد اشتاقت لأحضانٍ تذكّرها بوالدها، اشتاقت للشعور بالأمان، وهل هذا ما ستشعر به؟....
لم تطل تساؤلاتها فقد أوصلها صديقها الجديد إلى حيّها فترجّلت من سيّارته تحت أنظار ابنة الجيران الحاسدة الحاقدة.
توالت الأيّام وتوطّدت معها مشاعر دعتها "صداقة" إلى أن، ذات مساء، وقبل وصولها إلى محطّتها الدائمة سألها إن كانت تريد أن يقبّلها، ما عساها تقول؟ ما سيكون وقع الرفض وهل القبول سيفتح أبوابًا جديدة لهذه العلاقة؟ لم تعرف ما تجيب بل اكتفت بالنظر إليه، إلى جماله الصارخ واقتربت منه وأودعته قبلةً على خدّه وتعمّدت أن تقترب قدر الإمكان من شفتيه فشعرت بحرارة أنفاسه، ثمّ لملمت نفسها وتركت مقعدها الحائر وقد أدركت أن صديقها لن يبقى كذلك مطوّلاً.
تطوّرت بهما العلاقة وتحوّل من صديقٍ حنونٍ عطوف، إلى حبيبٍ لجوجٍ وعاشقٍ كريمٍ لم يبخل عليها بالعطور والملابس والحليّ... والغرام. وأشرقت الشمس في حياتها المظلمة لكنّها لم تسمح لنفسها بالاسترسال في الحلم، فهي تعرف حقّ المعرفة أنّ الجمال فانٍ لا يدوم، وأنّ الحياة أقسى من أن تقدّم لها كلّ التسهيلات دفعةً واحدة، وقد كانت على حقّ.
فذات ليلةٍ أخبرها أنّه سيغيب فترةً لأنّ زوجته مريضة، كان هذا أوّل كفٍّ ينهال به عليها، زوجته؟؟ ومن أنا إذًا؟؟ آلمتها الصدمة في بادئ الأمر، لكنّها أجبرت نفسها على تخطّيها والمضيّ إلى الأمام، لكن ماذا عن شقيقيها؟ فقد اعتادا على الملابس الجديدة والطعام والحلوى والهدايا....
لا لن تحرمهما ممّا لطالما حرمت هي منه....
ازداد عدد معارفها وتوسّعت أعمالها وصار جسدها يطالب بالمزيد من المتعة وباتت، دون الحاجة للتجوال وبالقليل القليل من الملابس - فهذا ما يحبّه الرجال - تجني الكثير الكثير من الأموال التي أخذت تجمعها وفي رأسها الصغير ألف فكرةٍ وفكرة.
وأكثر ما كان يؤلمها حتّى أكثر من تأوّهات عشّاقها وشهقات رغباتهم وتصرّفات بعضهم القاسية الخالية من الإحساس لدرجة الألم والتمزّق وذرف دموعٍ لطالما اعتبروها دموع انتشاء، ما آلمها أكثر من كلّ هذا نظرات الاشمئزاز التي كان يقابلها بها صاحب تلك السيّارة.... وهل يحقّ له؟
هي لم تعده بشيءٍ، لا بل إنّه وحده الملام، هو، الذي بعمر والدها، من فتّح عينيها على ما كانت تجهله من ملذّات الحياة ومتعات الجسد، هو من أيقظ فيها مشاعر العشق والاحتراق وإشباع الرغبات والتعطّش للحبّ...والخيانة!!! وما يؤلمها أكثر أنّها كرهت كلّ الرجال ولم تقوَ على كرهه هو ولا الحقد عليه... ولا نسيانه فهو الوحيد الذي علّمها الهوى وكلّ من أتى من بعده صار مصدر عيش.
توالت الفصول والسنون، إلى أن بدأت تتعب وأخذ جسمها ينحل... كانت هذه أولى علامات المرض، وبعد بدء مرحلة العلاج وتساقط شعرها من أثره، أخذت وعداً على نفسها أنّها لن تفعل ما فعلته أمّها في السابق، لن تستسلم لشبح الموت قبل أن تشتري لأختها منزل أحلامها ولأخيها سيّارةً تشبه سيّارة حبيبها الأوّل...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق