لكأنّ التجاعيد مدافن الراحلين الذين نحبّهم... هم يموتون ونحن نكبُر.
أسعد مكرزل، ابن بعبدا وآخر الحكواتيين الذين أعرفهم، رحل اليوم فجرًا. وأنا إذ أكتب عنه الآن، فليس لأنّه زوج ابنة عمّي، أو ابن بلدتي البارّ ورئيس جمعيّة حماية التراث فيها... أكتب عنه لأنّ تاريخًا من الحكايات الجميلة والأخبار الطريفة تنطوي بغيابه، وتضيع إلى الأبد...
كان أسعد خزّان معلومات لا يمكن أن نجدها في بطون الكتب، لو وُجد من يدوّنها ويجمعها، وتنوء بها أكتاف رفوف المكتبات لو أتيح لها من ينشرها. لكنّ الحياة بإيقاعها السريع تمشي بنا نحو فناءٍ حضاريّ، فيموت حملة الذكريات مجهولين، ماضين إلى غيابهم وهم يتمنّون لو يصيرون حكاية جميلة تضاف إلى مخزون القلوب. فأمثال أسعد مكرزل لا يحملون التاريخ إلّا في حنايا القلب وزوايا الوجدان، فلا تصدر عنهم حكاية مهينة، أو طُرفة جارحة، ولا يفضحون أو يستغيبون أو يشهّرون أو يؤذون... بل يشيعون جوًّا من الطرافة واللطف والمزاح الرقيق الأنيق، بلا كلمة نابية أو قول ٍلا يليق بالكبار والصغار في آن واحد.
أسأل نفسي وأنا أتأمّل في رحيل هذا الرجل الذي أمضى حياته بين أمكنة ثلاثة: الكنيسة والبيت والعمل، عن حياتنا التي ما عادت تتّسع لحكاية... عن الحكاية التي تفتقد إلى من يؤلّفها من دون قصد منه، ومن ينقلها، ومن يرويها ومن يصغي إليها... أسأل نفسي عن هذا الحكواتي الأخير الذي تقدّم به العمر وبقيت الحياة تليق به، عن حافِظ الشعر الذي شاب شَعره وناء قلبه بالهموم والحزن، لكنّه لم يتعب من استعادة زمن جميل كان الكلُّ فيه شعراءَ وزجّالين وحكواتيّين ومؤرّخين ومستمعين لا يُستهان بذوقهم وحُكمهم...
أسأل نفسي عن العمر، وأنا أنظر إلى أجيال كانت البارحة صغيرة لا تعرف الحزن، واليوم تقف في الصفّ الأماميّ لتقبّل التعازي، وأفكّر في أنّ الانتظار، انتظار الأيّام الأجمل، حرمنا من الحياة الفعليّة، فأقمنا على حافّة موت مؤجّل. ولم ينجُ إلّا من تسلّح بحكاية: حكاية عن أهل الأرض أو أهل السماء... لا فرق. المهمّ أنّ الحكاية هي المكان الذي لا يموت فيه أحد... وإذا كانت تجاعيدُ وجوهنا مدافنَ من نحبّ، فالحكايات حياتهم الثانية، حياتهم التي لا تعرف الموت.
حين كان أسعد يروي أمامنا حكايات عن أهل البلدة، كان هؤلاء يعودون من موتهم ويجلسون معنا ويضحكون مثلنا. كان الموت نفسه يستغرب كيف أنّ الإنسان يتحدّاه بالحكاية، فينفض المائتون البرودة عن أطرافهم، واليباس عن جلودهم، والذبول عن أجفانهم، ويستعيدون حياة تتجدّد عند كلّ لقاء وفي كلّ مناسبة.
التاريخ يكتبه رجل انتصر على الحقد فيه. وأسعد مكرزل رجلٌ عرف كيف ينتخب ممّا سمعه وعاصره وعايشه حكايات تحفظ حرمة المجالس، وتصون عهد الجيرة والصداقات، وتنأى عن الوقاحة والثرثرة والنميمة. وهو إذ يمضي سهرته الأولى هناك - هناك حيث من سبقه من أهله، وحيث يوسف شقيق زوجته دعد ينظم قصيدة جديدة - سيجد أسعد نخبة المستمعين.
مستمعون يلتقطون في نبرات صوته حرقة الاشتياق الطازج إلى زوجته دعد وولديه هيلين وهنري والأحفاد...
مستمعون يلحظون في عينيه دمعات العتب لأنّه رحل بلا كلمة وداع...
مستمعون يرصدون تساؤلاته عمّن سيتابع عمله في الكنيسة والرعيّة...
مستمعون يعرفون أنّه تعب من المرض والمستشفيات ولم يتعب من سرد الحكايات...
وها هو الآن يلتقط أنفاسه التي خنقها مرضُ رئتيه، ليصير الحكواتي الأوّل هناك... هناك حيث يقيم أبطالُ قصصه...
هناك 3 تعليقات:
al soura bi 3adasit Maurice
الله يرحمو
أنا متأكد علم اليقين ...لأنني مؤمنن بالله،بأنه أصبح في مكان سيقوم فيها بسرد أجمل الحكايات عن ما شاهده و عاشه في هذه الحياة الفانية فقط لأنه عاش جمال الحياة.
يا الله كم أنتِ رائعة!
"كان الموت نفسه يستغرب كيف أنّ الإنسان يتحدّاه بالحكاية، فينفض المائتون البرودة عن أطرافهم"...
دوّني أنتِ ما حفظتِ من مُلحِ وطرائف...
ولك العمر الطويل
إرسال تعليق