ماري القصيفي بين "رسائل العبور"
"كلّ الحقّ ع فرنسا"
ميراي يونس – مجلّة المسيرة – 18 نيسان 2011
من "رسائل العبور" والنصوص القصيرة، عبرت ماري القصيفي إلى مقلب آخر وتحدٍّ أكبر لتكتب روايتها الأولى "كلّ الحقّ ع فرنسا"، وتثبت فرادتها ليس ككاتبة مبدعة فحسب، إنّما أيضًا كروائيّة من الطراز الرفيع.
على لحن سمفونيّة من الكلمات البسيطة في ظاهرها، العميقة في جوهرها، أطلقت القصيفي العنان لمخيّلتها، وأخرجت من تحت جلدها ذلك العابر، أو "سيّد اللقاءات المتوهّجة" كما تسمّيه، لتشاطره تفاصيل الحياة كلّها، الصغير منها والكبير، مختصرة في سطور مشاعر جميع النساء، أو جميع الرجال، بل قل جميع عشّاق الأرض. وله أنشدت: "صور الذين رحلوا مرغمين...ابتسامات المزارعين وهم يلمسون الثمار الأولى، دموع القابعين في برد الوحدة، خجل العذارى حاملات الطيب والقناديل،...حفيف الأوراق على خريف الأشجار، أصوات الباعة المعلّقة نبراتها على حبال الغسيل، قلق الغروب عند حافّة البحر، المويقى الأنيقة في مطعم راق، أرق الشاعر عند ولادة القصيدة، ...صوت القلم على الورقة، رائحة القهوة المثيرة، الأقدام العارية على رمال الشواطئ، الطرقات الجبليّة الوعرة،...المنتظرون عند أرصفة العبور، أحلام الأسرى في السجون، العائدون ليلاً إلى منازلهم الفارغة، الواقفون على الطرقات ينتظرون من يحمل تعبهم، الأصدقاء الغائبون والمغيّبون، العشّاق القلقون، الصحف المرميّة على برد الطاولات في المقاهي المثقّفة، اللهفة إلى اللقاء، المواعيد المؤجّلة، الأحاديث الجريئة، الابتسامات الشهيّة، الغضب النابع من أرض الانتظار، الاعتذار عمّا قيل وعمّا لم يقل، الأصابع المرتعشة الخائفة من اللمسة الأولى، الأحلام المعلّقة بين أرض الممكن وسماء المشتهى، الأغنيات المعتّقة في خوابي الذاكرة، الزمن المشدود إلى وتر وجودك، ذلك بعض ما في لقاءاتنا يا سيّد اللقاءات المتوهّجة".
وتتوالى الرسائل التي تزخر بأحاسيس ومفردات راقية، وإن خرجت القصيفي عن التابوهات والكليشهات والأطر المرسومة التي كثيرًا ما تحدّ عفويّة البعض في التعبير عن مكنوناتهم، إلاّ أنّها لم تقع لحظة في الابتذال والإثارة الرخيصة. ولعلّها بلغت ذروة الإبداع في نصّ "المريمات" الذي عنونته "أنا مريم"، وهذا بعض ما جاء فيه: "أنا مريم العاشقة/ انتظرت رجلاً/ فأتى ملاك/ وقال الكلمات التي لم يقلها رسول قبله ولن يقولها بعده/ ولأنّي صدّقته/ حلّت فيّ الكلمة/ ومنّي ولدتْ/ فصرت أمًّا. أنا مريم الخاطئة/ عشقني رجال يردّدون الكلمات نفسها/ ولمّا عشقت رجلاً يقول الكلمات التي لم يقلها أحد قبله ولن يقولها بعده/ صرت قدّيسة... أنا مريم الغريبة/ ظننت أنّي بالاسم الذي أحمله/ أفكّ الرصد عن مخبأ الكلمات/ وأحوّل الرجال ملائكة/ وأوقف نزف الروح من مسام الجسد/ إلاّ أنّ اسمي صار صليبًا للصوص. لكنّ ملاكًا ذا عينين حزينتين/ ويدين كجناحي طائر أرهقهما السفر/ سيأتي يومًا/ وسأقول له الكلمات التي لم يسمعها أحد قبله ولن يسمعها بعده/ كلمات/ تصيّره رجلاً/ وتعلنني نبيّة".
وأتقنت القصيفي في رواية "كلّ الحقّ ع فرنسا" أصول البناء القصصيّ من حيث الحبكة، والعقدة، والتأزّم، والشخصيّات، وصولاً إلى الحلّ، لتجذب القارئ وتلتقط أنفاسه طوال ساعات و330 صفحة. على لسان زاد، تقصّ القصيفي حكاية عيلة صديقتها جولييت، التي شغلتها طول عشرين عامًا ونيف، وبطلتها شقيقة جولييت "وردة" أو "روز" – وفق الظروف والمناسبات – ابنة الخامسة عشرة، التي لحقت بكولونيل فرنسيّ قصد قريتهم البقاعيّة وأعجب بها إلى بيروت، بتشجيع من والدتها نجلا التي كان همّها أن يحظى ابنها حبيب، تاجر المخدّرات، بحماية السلطات المنتدبة. وبعد علاقة دامت أكثر من سنة، عاد الكولونيل المتزوّج إلى فرنسا وعيلته، تاركًا روز مكسورة الفؤاد، لتتنقّل من رجل إلى آخر، قبل أن تلتقي حبّ حياتها ناجي، المتزوّج أيضًا، والذي ستساكنه طوال عشرين عامًا، لتقضي أخيرًا انتحارًا. ويبقى السؤال الأساسيّ: "ما الذي أتعب روز، على ما تقول القصيفي، وجعلها تشرب الديمول في تلك الليلة، الديمول غير المخفّف بالمياه، وإن كان في قنينة مياه؟ إنّ امرأة ذكيّة مثلها، ولها تلك الخبرة في الحياة لا يمكن أن تكون فوجئت فعلاً بأنّ الرجل الذي تحبّه نام مع زوجته ومارس معها حياة زوجيّة شبه طبيعيّة. ربّما وردة قبل أن تنزل إلى بيروت ما كانت لتعرف ذلك، ولكنّ روز تعرف. صارت تعرف. الرجال علّموها".
ميزة القصيفي في هذه الرواية أنّها اختصرت من خلال تاريخ أربعة أجيال لعيلة لبنانيّة، تاريخ لبنان الحديث بكلّ أحداثه وحروبه وطوائفه وتركيبته الاجتماعيّة وعاداته وتقاليده ودور الغرباء على أرضه وهجرة أبنائه...ألم تتزوّج كلّ من شقيقات وردة الأربع أورثوذكسيًّا ودرزيًّا وسنيًّا وفلسطينيًّا؟ ألم يتوزّع أولاد شقيقاتها وشقيقيها في أقاصي الأرض، من مصر والسعودية إلى فرنسا وإسبانيا وأميركا وكندا؟ وقد أعطت القصيفي لكلّ شخصيّة – وما أكثر عددها – حقّها ليُسمع صوت كلّ منها تبدي رأيها في موضوع معيّن.
ولكنْ لمَ "كلّ الحقّ ع فرنسا"؟ ألأنّ نجلا كانت تقول دومًا هذ العبارة لتجد من تلقي عليه اللوم اوفاة ابنتها، ليردّدها بعدها أولادها وأحفادها وأبناء الأحفاد؟ يبقى على القارئ أن يكتشف السرّ في رواية سيطالعها لا محالة في شغف.
*****
كتبت ماري القصيفي منذ العام 1990 في "الديار" و"النهار" وملحقها الثقافيّ، و"سفير الناس" وهو ملحق صدر عن "السفير"، و"الحوار" و"الرأي العام" الكويتيّة، ومجلّة "الناقد". كان لها في صفحة "النهار" الثقافيّة" مقالة أسبوعيّة تحت عنوان "أضواء خافتة" منذ كانون الأوّل 2002 حتّى آب 2005. كتبت مدّة باسم مستعار هو "مي م الريحاني". صدر لها عن دار "مختارات": "لأنّك أحيانًا لا تكون"، "رسائل العبور"، "نساء بلا أسماء"، "الموارنة مرّوا من هنا". أمّا رواية "كلّ الحقّ ع فرنسا" فصدرت عن دار "سائر المشرق".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق