السبت، 23 أبريل 2011

للتذكير فقط: في 1 شباط 2011 كتبت عن مصير الثورات العربيّة

في 1 شباط كان الجميع متفائلاً بأنّ الثورات العربيّة ستقلب الأنظمة في يوم وترفع سواها في اليوم التالي. يومذاك كتبت في صحيفة النهار مقالة عاتبني كثيرون في شأنها واتّهموني بالتشاؤم والخضوع لنظريّة "المؤامرة" التي اعتدنا أن نلصق بها كلّ تغيير في المشهد السياسيّ في بلادنا، غير أنّني كنت ولا أزال مقتنعة بأنّ ثورة لا تتّكئ على فكر أو ثقافة أو فلسفة لن تصل إلاّ إلى استبدال نظام بنظام. أعيد التذكير بتلك المقالة لأنّني أقرأ عددًا كبيرًا من المقالات التي ترثي هذه الثورات بعدما أفاضت دموع الفرح كلماتٍ تهلّل للحريّة الآتية لا محالة بين لحظة وأخرى. وكلّ الأمل في أن نكون، سبّاقين ومستدركين، على خطأ وأن يكون التغيير نحو الأفضل لا الأسوأ.




من ثورة الحجارة إلى الأرز إلى الياسمين






تتطلّب التحرّكات الشعبيّة التي تنتقل عدواها ما بين العواصم والمدن العربيّة قراءة نقديّة هادئة، بمعزل عن الانفعالات الحماسيّة التي تصلح للنقل التلفزيونيّ المباشر والرسائل القصيرة عبر التلفون أو الإنترنت وللمدوّنات التي تؤجّج الرغبة في النزول إلى الشارع، وذلك كي لا يوحي المرء لنفسه بتفاؤل في غير موقعه أو يخدع أجيالاً من الشباب تحلم بالتغيير. فلربّما ما يجري مجرّد حفلة تقاتل على السلطة أو على رغيف خبز يسدّ جوعاً آنيّاً لا ثورة حقيقيّة تهدف إلى الحريّة والعدالة والمساواة. لقد أغرقتنا الخيبات والهزائم في الشكّ المقيت وتسلّل الفساد إلى خلايانا، حتّى ما عدنا لنجرؤ على التصديق أنّ الشعوب العربيّة قادرة فعلاً على الثورة. ولعلّ أكثر ما يدفعنا إلى اتّخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر من الانسياق وراء حلم الحريّة هو غياب المثقّفين والمفكّرين عمّا يجري، ما يجبرنا على الاعتقاد بأنّ هذه التحرّكات لن تدخل التاريخ من بابه الواسع، لأنّها لن تحدث التجديد المطلوب في العقول والنفوس والنصوص.
من ثورة الحجارة في فلسطين إلى ثورة الأرز في لبنان إلى ثورة الياسمين في تونس، تسميات تصوّر الانتقال من الصخرة التي أحببنا أن نؤسّس عليها وطنًا لا تقوى عليه أبواب الجحيم، إلى الخشب الخالد الذي حاولنا أن نبني منه مؤسّسات لا ينخرها السوس، إلى الياسمين الرقيق الذي حلمنا أن نزيّن به بيوتاً غارقة في الدفء. ولعلّ التسمية الأكثر تعبيراً عن هذا الانفعال الذي لا يصلح للرهان عليه هو الغضب. يعيدني غضب الشارع العربيّ اليوم إلى المارد والصيّاد في حكايات ألف ليلة وليلة، فالمارد المحكوم عليه بالسجن في قمقم، قبع منتظراً وهو يعِد بتحقيق أمنيات من ينقذه. ولكن عندما طال الانتظار وامتدّ مئات السنين، سيطر الغضب على المارد المسجون حتّى وصل به الأمر إلى أن قرّر أن يميت شرّ ميتة من يخلّصه من عمق البحر وعتمة الأسر. لكنّ الصياد الذي وجد القمقم وواجه احتمال موته خدع المارد وأعاده إلى سجنه. فهل تكون نهاية الانتظار عند الشعوب العربيّة هذا الغضب الذي يعمي البصيرة ويعيد من يتذوّق طعم الحريّة إلى كهوف الكبت والذلّ؟ الثورة تأكل أبناءها بحسب معطيات التاريخ. لكنّ التقاتل ما بين أبناء الوطن يأكل الجميع، ونحن على ما يتراءى لنا نواجه احتمالات الحروب الأهليّة، إذ تنعدم الرؤية تحت دخان الإطارات المشتعلة، ويختفي صوت المنطق تحت ضجيج التكسير والتحطيم، وتتفتّت الثورة المنتظرة تحت أقدام الغاضبين الذين لا يملكون رؤيا واضحة لما يريدون تحقيقه بعدما يزول حكم من يريدون إقصاءه. ولا تزال المشاهد المعبّرة عن إسقاط رموز النظام في العراق وفي بلاد أخرى، ماثلة في الأذهان، وكلّنا شاهد على أنّ ما جرى بعدها ليس أقلّ عنفًا وفوضى.
إن تشبيه الثورات بتفجّر المياه التي لا نعلم متى تنبثق من الأرض ولا كيف تشقّ طريقها ما بين الصخور صحيح. غير أنّ المياه المتفجّرة التي لا تجد سدودًا تحفظها لمواسم القحط والجفاف، أو قنوات تقودها إلى الأرض المزروعة العطشى تذهب إلى البحر أو تغور في الأرض أو تُغرق الناس. لهذا من حقّنا أن نتساءل: ألن تتحوّل الشوارع الثائرة بؤراً للنزاعات الضيّقة متى تخلّصت من رموز الفساد؟ وهل النظام الإصلاحيّ البديل جاهز للتطبيق متى رحل الحكّام الطغاة أم ستنتظر البلاد المستفيقة من عزّ نومها أشهراً وسنوات قبل إيجاد البدائل، ما يتركها ساحة واسعة للأصوليّة والتعصّب والفوضى؟ وهل تملك الشعوب العربيّة الوعي الكافي كي لا تتحوّل "الثورة" التي يفتخر الناس بها صراعات طائفيّة ومذهبيّة وحزبيّة وطبقيّة؟ ألا يمكن، في غياب أهل الوعي والعلم والمعرفة والفكر المستنير، أن يتحوّل الشعب قطيعاً هائجاً يسرع نحو الجرف وهو مطمئنّ إلى أنّه يهرب من الخطر؟
أراقب المشاهد التي تنقلها وسائل الإعلام من تونس ومصر ولبنان والجزائر وفلسطين والأردن واليمن وأحاول أن أرى الرابط المتين الذي يجمع ما بين هؤلاء الناس الغاضبين فلا أجد سوى خيط واه يشدّهم إلى حلم التغيير من دون أن يمتلكوا وسائل تمتين الخيط أو تحقيق الحلم. قد يقول قائل: أن تأتي الثورة متأخّرة خير من ألاّ تأتي أبداً، وأن تتفجّر المياه ويذهب أكثرها هدراً أفضل من الموت عطشاً. لكنّ الخوف، كلّ الخوف، هو أن نكتشف لحظة بعد لحظة أنّنا نلهث خلف وهْم ثورة وسراب ماء، وعند ذلك لن يكون أمامنا إلاّ الاختباء خجلاً في قمقم مختوم بختم اللعنة التي أنزلتها بنا السماء التي كفرنا بنعمها والتمنّي ألاّ يجدنا أحد... هذا إن بقي بيننا من يشعر ويخجل!
***
صحيفة النهار - 1 شباط 2011

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

سبحان الله ،،هي ثورة الارز ثورة مثل باقي الثورات العربية ،،

ماري القصيفي يقول...

المهم النتيجة

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.