لم تُسقط الثورات في العالم العربيّ الأنظمة فحسب بل رفعت الناس من تحت ركام النسيان وهذا هو الأهمّ. كنّا قد نسينا أنّ في تلك البلاد شعوبًا، إذ انطبعت في ذهننا الجماعيّ وجوه زعماء وقادة ورؤساء وملوك، يهيمن اسم الواحد منهم على اسم بلاده ويخفي خلف صورته العملاقة تاريخ وطن وجغرافية أرض. ولولا هذه الثورات لما اكتشفت وسواي أنّ في العالم العربيّ دولاً تتحكّم بالأوطان في حين أنّ لبنان وطن بلا دولة. كنّا نحسب أنّ لمصر ثلاثة أسماء: مصر عبد الناصر، ومصر السادات، ومصر حسني مبارك، وأنّ اليمن هي يمن علي عبد الله صالح، وتونس هي تونس زين العابدين، وليبيا هي ليبيا معمّر القذافيّ، وسوريا هي بالطبع سوريا الأسد. لذلك لم يعنِ لنا من بعيد أو من قريب أن نحفظ اسم رؤساء الحكومات في تلك البلدان ولا أسماء رؤساء الأحزاب (إن وجدت) أو النوّاب الذين كانوا بالنسبة إلينا عناصر ثانويّة، بل أقرب إلى أن يكونوا شرًا لا بدّ منه في بلاد قامت على أحاديّة الرأي والقرار. أمّا لبنان فلم يكن لبنان أحد: فلا أحد يقول لبنان بشارة الخوري، أو لبنان صائب سلام، أو لبنان كمال جنبلاط. ولولا ما يجري في الدول العربيّة لما انتبهنا فجأة إلى أنّ هذا الوطن البلا دولة والبلا قانون، وعلى الرغم من معاناته الطويلة، لا يزال أكبر من زعمائه وقادته ورؤسائه الذين يعرف أسماءهم وسيرَ حياتهم ومواقفهم المواطنون العرب من المحيط إلى الخليج، وأنّه يتمتّع بحريّة عصيّة على التحديد والتعريف، حريّة يصعب معها بناء دولة ولا يمكن من دونها أن يبقى هو الوطن.
كلّ واحد منّا يفقد على مدار الساعة ثقته بلبنان، وعلى مدار الساعة ينفجر الأمل ونحن نشهد على معجزة استمرار الحياة فيه واستمراره في الحياة. وفي مقابل انهيار هيكليّة الدول حولنا بعد أيّام من انهيار الأنظمة، يدهشنا كيف أنّنا صمدنا أمام التشرذم الداخليّ والتدخلّ الخارجيّ بشكل لا يمكن اعتباره إلاّ معجزة لم تتحقّق لولا الحريّة. لا شكّ في أنّ المقارنة بين ما جرى في لبنان وما يجري في الدول العربيّة تفرض أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعة أمور: كمساحة لبنان الضيّقة، وعدد سكّانه القليل، وغياب مصادر الطاقة فيه التي في سواه تفتح شهيّة مختلف الدول. لكنّه في المقابل ناء تحت ثقل الطوائف فيه، وهي فتيل تفجير بقدر ما هي مصدر غنى، كما رزح تحت وطأة القضيّة الفلسطينيّة، ومع ذلك لا يزال يصارع للبقاء.
اليوم، تنبت الأوطان العربيّة من تحت ركام الدول المنهارة كزهرات عاندتْ طويلاً الموت في عتمة التراب وجفاف الأرض. وككلّ زهرة يانعة تحتاج الأوطان المنتفضة على مغتصبيها وقتًا لتنسى فيه جراحها وتتعلّم كيف تحيا في أجواء من الحريّة والانفتاح. وهذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلّمه شعوب تلك البلاد من التجربة اللبنانيّة المريرة. وهذا هو التحدّي الذي ما زلنا نحن اللبنانيّين نواجهه يوميًّا، أن نستمرّ في عشق هذا الوطن الذي يقدّم لنا كلّ يوم مئة سبب لنكرهه ونتركه، وحتّى الآن لم نفعل.
هناك 4 تعليقات:
لبنُ .. سنظل في حاجة للبنان صغاراً رُضّعاً فشيوخاً "نصّلنا" الأسنان والأضراس. سنظل نستقي منه شراب القوة والمعرفة ، ومن أرزه عنفواناً كالذي لعبود وعقل وفيروز ومريم وغيرهم
يحتاج اللبنانيّون إلى أن يعرفوا قيمة وطنهم وغنى تراثه
سنظلُّ نعشق هذا الوطن بخاصةٍ انّ قلمكِ يوقظ ضمير من مات عشقه في قلبه... وما دام في الوطن الصغير كما أسمّيه، نبض عشقٍ في قلمك فلن يموت...
أشكر لعاشق الوطن عشقه ورسالته
إرسال تعليق