"كل الحق ع فرنسا" باكورة ماري قصيفي الروائية:
نضارة التدفق الأول
المستقبل - الثلاثاء 5 نيسان 2011 - العدد 3960 - ثقافة و فنون - صفحة 20
باكورة الزميلة ماري قصيفي "كل الحق ع فرنسا" (عن دار سائر المشرق، بيروت)، تعد كثيراً. بل وتلوح بكتابة تجمع بين التقنية الروائية والإمساك بالمضامين، والتناقضات، العائلية والوطنية. إنها رواية "الخلية" التي تتحول أفقاً متسعاً، متنوعاً، تتحرك فيه الغرائز والأمزجة والعادات والرغبات في أزمنة ملتبسة، أو فلنقل في أمكنة التبست بالشخصيات، وبتواريخ نضحت بالاعتمالات.
ماري قصيفي تسرد خارج كل إطار جاهز. خارج كل اتجاه جاهز. بل خارج أي تلاعب أو نمذجة للبنية أو للناس، أو للأمكنة. إنها من كتابات ما بعد الايديولوجيا. وما بعد المدارس الأدبية المسبقة، كأنها ترتجل في سرد حي ومتنوع تنوع المواقع والحالات كتابة، هي الى حرصها على التفاصيل، تجعل من التفاصيل جزءاً من كليتها.
ماري قصيفي في "كل الحق ع فرنسا"، تقدم كتابة طازجة، ونضرة على نضج وقوة، توحي ما تفيض عنه الرواية، الى ما ينتظرها، والى ما يتجاوزها.
*****
هنا فصل من فصول الرواية.
ماتت نجلا وهي تلعن فرنسا والفرنسيين قائلة في حسرة: "لولا وردة والكولونيل الفرنسي كنا بألف خير".
ولكن بنات نجلا اللواتي أحطنها وهي على فراش المرض الذي أودى بها سريعاً، كن يتبادلن النظرات في غفلة عن أمهن وفي بال كل منهن عبارة واحدة:
"أنت يا أمي هرّبت وردة مع الكولونيل الفرنسي، ولولاك لكنا بألف خير".
في عهد فرنسا، الأم الحنون كما يحلو للبنانيين أن يصفوها، ولو انقسموا بين من يقول ذلك مؤمناً أو من يردده ساخراً مما يؤمن به الآخرون، وبرعاية نجلا التي لم يعلمها أحد كيف تكون أماً، كبر عدد من الأولاد لم يكن لأحد رأي في إنجابهم وتوزيعهم على المدن والقرى والبلدان، حيث حلوا وتزوجوا وأنجبوا وماتوا وتركوا خلفهم قصصاً لا يُعرف أولها من آخرها. وحين كان كمال يستمع الى تقرير الشرطة الأميركية عن مقتل أخيه، ويكتشف أنه كان يجلس على شرفة الأخ القتيل حيث دفنته زوجته التي شاركت والدها في قتله، حين استمع كمال الى كل ذلك وغيره عن تفاصيل الجريمة التي أودت بحياة شقيقه وديع، استعاد صورة جدته وهي تلعن فرنسا، وضرب رأسه بالحائط وهي يبكي وينتحب ويصرخ:
"يا ستي لم نعد نعرف الحق على مين، على فرنسا أو على لبنان أو على فلسطين أو على أميركا أو على سوريا أو على إسرائيل؟ آخ يا ستّي، شربت القهوة فوق جثة ابن بنتك ومسحت دموع زوجته التي قتلته ولم يتحرك فيّ عصب الدم ولا رابطة القربى ولم أشعر بروحه تحوم في المكان وتطالبني بالانتقام. ماذا فعلت يا ستي؟".
***
كانت هذه المقدمة صيغة من الصيغ التي تخطر لزاد وهي تستمع الى جولييت تروي لها حكايات عائلتها من دون أن تضجر من سؤالها كل مرة:
"متى ستكتبين ما أحكيه لك كما وعدتني؟"
وكانت زاد تجيبها دائماً:
"عندما أجد الوقت".
وفي إحدى المرات قالت جولييت:
"سأموت قبل أن أقرأ قصة عائلتنا في كتاب".
فأجابتها زاد:
"لا سمح الله فأنت لن تموتي الآن، بعد بكّير".
ثم تابعت وهي توضح لها أنه ليس من السهل أن تُكتب قصة عائلة لا يزال أكثر أفرادها على قيد الحياة، وأن عليها أن تغيّر الأسماء والتواريخ والأمكنة كي لا تقع في مشاكل قضائية. وكانت جولييت تغرق في الحزن كل مرة تجيبها زاد بهذه الطريقة كأنها تدفن الآن كل من مات من أهلها، أو كأن القصة ستموت بموتها ولن تجد حكايات عائلتها من يرويها، على الأقل ليس كما تفعل هي. ولكن تخفف زاد عنها تأثير تهربها من الموضوع، كانت تضيف عبارة من نوع:
"يا إختي إنتو معودين على المحاكم والمحامين والسجون، لشو بدّك تورّطيني بهالشغلة؟".
تفعل الجملة فعلها فتنطلق بعدها تلك المرأة في سرد حكاية لا أبطال فيها، بل مجرد أشخاص ينتظرون في النهار مجيء الليل، وفي الليل ينامون كي لا يشعروا بأنهم ينتظرون طلوع الضوء.
ولكن جولييت لم تحكِ القصة نفسها مرتين. في كل مرة تفاجئ زاد بتفاصيل لم تذكرها سابقاً مع أنها تسمع هذه الحكايات منها منذ أكثر من عشرين عاماً. وفي كل عام تحرص تلك المرأة على استعادتها منذ البداية حين تحل مناسبات ذكريات الولادة والزواج والموت، كأن هذه العائلة لم يكن لها دور في الحياة إلا إنجاب الأولاد وتزويجهم ودفنهم، ودائماً كانت المناسبة في رأسها مرتبطة بعيدة فهذا وُلد ليلة عيد مار جريس، وتلك ماتت يوم عيد البربارة، وأخرى راحت خطيفة يوم عيد البشارة، أما هي فولدت بعد رحيل الفرنسيين، تقول جولييت متباهية.
هي انتاج الاستقلال إذن. تفكر زاد.
ولكن هناك دائماً ما لم يذكر سابقاً في هذه الاستعادات: أخبار وحوادث لم تذكرها سابقاً، وتواريخ تتغير بسهولة. ومع ذلك كانت زاد هي المخطئة في رأي صديقتها.
"أنت نسيت"، أنت لم تكوني منتبهة"، أنت أخطأت".
غير أنها تجد لها سريعاً العذر نفسه، إذ لا يمكن أحد سواها أن يحفظ كل هذه التواريخ والأسماء والمشاكل. ثم تؤكد لها ذلك بقولها:
"حتى أختي كاميليا تتصل بي لتسألني عن تواريخ ميلاد أولادها".
وكانت زاد تمازحها وتقول لها:
"أكيد رح تنسى. أليست أكبر منك بأكثر من عشر سنين؟ أنت أصبحت ختيارة فكيف ستكون حالها هي؟".
تضحك المرأة وهي تنفث دخان سيكارتها وتصحح معلومات صديقتها قائلة:
"من زمان وأنا أسجل في رأسي ما يجري معنا. ربما لأنني كنت الصغيرة بينهم وكان عليّ أن أجد دوراً لي في مشاكلهم الكثيرة".
وبالفعل كانت جولييت تفاجئ زاد بذكر تواريخ الميلاد والوفاة، محددة الساعة واليوم والظروف المرافقة. ومع أن زاد تعلم أن هذه المعلومات هي وحدها الدقيقة، أما سواها فلن يبقى على حاله عندما تحكي المرأة من جديد إلا أن ذلك لم يمنعها من إبداء الاعجاب بذاكرتها فتقول لها:
"ما شاء الله ذاكرتك متل ذاكرة الفيل".
ولأن جولييت لم تكن تعرف هذا التشبيه استفسرت عنه وأعجبت به فاستنتجت زاد أن صديقتها في مناسبة السرد المقبلة ستستخدمه لوصف ذاكرتها القوية. وهكذا صار.
ومع أن زاد وضعت مقدمات كثيرة غير هذه المقدمة التي تصف كمال وهو يعاتب جدته الميتة، إلا أنها كانت تعود اليها وتستقر عليها، لاقتناعها بأن هذه الحكاية ما كانت على ما هي لولا نجلا التي صارت جولييت تبرئها من المسؤولية عن كل ما حدث، مع أنها صدّعت رأس زاد منذ بدء معرفتها بها وهي تردد أن أمها سبب كل ما حصل لهم. هكذا كانت تقول، فلماذا صارت تغير روايتها؟ وهل فعلت ذلك لأن أمها ماتت؟ وهل يغير الموت حقيقة ما حصل مع الناس لأنه يدخلهم عالماً آخر ويصيرون كائنات أخرى أم لأنها كانت تتذكر فجأة أن زاد قد تكتب في يوم ما حكاياتها التي متى كُتبت وطُبعت ونُشرت فلن يعود من الممكن تعديلها أو تصحيحها أو التبرؤ منها؟ كل الذين ماتوا تغيروا في حكايات هذه المرأة التي لا تستقر على حال أو في مكان. كل واحد من أفراد عائلتها له حكايتان وشخصيتان، ما قبل الموت وما بعد الموت. كانت تبدو بعد موت أحدهم ساعية بقصد أو بغير قصد الى محو صورته القديمة التي رسمتها هي نفسها له في خيال زاد لترسم صورة أخرى مختلفة تماماً عن الأولى، فتشعر زاد بأن المرأة نادمة على ما قالته وتتمنى لو تستطيع أن تعيد عقارب الساعة الى الوراء لتقول كلاماً مختلفاً يطمئن الموتى في موتهم الى أنها لم تخن ذكراهم.
هكذا كانت جولييت وهكذا بقيت.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق