لا أعرف لماذا تنتابني الرغبة في الكتابة عن الرجل العابر عندما ننهي الحديث التلفونيّ الطويل. ولا أعرف كذلك كيف تكوّن عندي إيمان عميق بأنّ الكلام بيننا لا يمكن أن ينتهي، وأنّ هذا التواصل الحميم تتضاعف حميميّته ويزداد دفؤه حين يصمت صوتانا المسموعان ليرتفع حوارنا الداخليّ، كلّ في مكانه.
وكان يحلو لي أن أقتنع بأنّه هو أيضًا مستمرّ في حواره معي. ومع أنّي عرفت في مناسبات كثيرة أنّه انتقل إلى عمل آخر، والتقى أناسًا آخرين مباشرة بعد إنهاء الحديث معي، ما يعني أنّه غادر عالمي كليًّا ودخل في عوالم هؤلاء الآخرين، إلاّ أنّني كنت كلّ مرّة أغري نفسي وأجعلها تعتقد عكس ذلك.
كنت أعرف أنّه يكره رائحة الياسمين، إلاّ أنّ تلك الرائحة العتيقة، الحلوة المذاق، المتسلّلة إلى غرفتي الغارقة في عتمة الليل الأيلوليّ المنعشة، كانت تصلني به في شكل غريب. كأنّني أستحضره إلى الغرفة المتّكئة على الرائحة البيضاء ولو ليقول لي إنّه يكره هذه الرائحة، مقدّمًا لذلك أسبابًا عديدة لم تقنعني بكرهها ولو مسايرة له. وكنت أبتسم في العتمة الشفّافة شامتة به لاقتناعي بأنّي ما دمت أفكّر فيه فهو إذًا موجود معي ومرغم بالتالي على التمرّغ في العطر المنجذب إلى مسام جسمه، وكلّما حاول التفلّت منه غرق فيه أكثر كأسير الرمال المتحرّكة. هذه الصورة وحدها كانت كافية للانتقام، ولسبب يتيم لم أجد سواه دافعًا للغضب منه، وهو غرقه في ذاته حتّى ذروة النشوة.
شعرت دائمًا أنّ رائحة الياسمين هي عطر الذين يرحلون، ربّما لأنّ الذين ماتوا ممّن كنت أعرفهم كانوا يرتبطون بطريقة أو بأخرى بأشجار الياسمين ذات الأغصان الرقيقة والزهرات السريعة العطب. لم يغادر أولئك الذين ماتوا ذاكرتي. صحيح أنّ أكثرهم من العجائز والشيوخ المتوقّع موتهم بيد أنّني شعرت دائمًا بأنّهم لا يريدون الرحيل، لا بل أملك اقتناعًا راسخًا بأنّ الشبّان الذين ماتوا كانوا يكرهون الحياة ويستعجلون موتهم أكثر بكثير من أولئك الكبار في السنّ، الذين، على صعوبة حياتهم في تلك الأيّام، ورغم العمر الطويل الذي عاشوه، كانوا لا يزالون متمسّكين بالحياة تمسّكًا شديدًا، وحاولوا قدر الإمكان تأجيل موعد رحيلهم مختلفين بذلك عن ذلك الشاعر الجاهليّ الذي عاش ثمانين حولاً جعلته يسأم الحياة التي لم يعرف فيها إلاّ الصعوبات، واسمه زهير بن أبي سلمى. فقط هذا الشغف النابع من علاقة مميّزة بالحياة هو ما يجمع صديقي الشابّ بأولئك الذين عبروا: تمسّكوا بها حتّى الانتشاء وتخلّوا عنها إلى حدّ الزهد بها.
كنت حين أتنشّق عطر الياسمين المغناج أرى رجال ذلك الزمن ونساءه جالسين تحت الأشجار الهرمة أمام بيوتهم العتيقة والنظيفة والسعيدة، وأتساءل عن السبب الذي جعلهم يحبّون الحياة إلى درجة قصوى وهم حُرموا من أشياء كثيرة يملك أضعافها شبّان هذا الجيل المستعجلون الرحيل المجّانيّ. لكنّ ذلك الرجل الذي يكره رائحة الياسمين لم يعرف أولئك الناس، ولم يكن من الممكن أن يسمح لرائحة مهما كان نوعها أن تقلق سكينته المرسومة حدودها في دقّة ووضوح. وكان قادرًا بشكل شبه عجائبيّ على إغلاق حواسه كلّها كي لا يسمح للخارج باقتحام داخله المنظّم والمرتّب والبارد.
لم أنتبه وأنا أتحدّث عنه إلى أنّ غرفتي انتقلت من الضوء الغريب الذي لا نراه إلاّ في هذا الوقت من السنة إلى العتمة الأليفة التي تشبه ثوبًا عتيقًا نرتديه في المنزل ونرفض التخلّي عنه إذ يشعرنا براحة فوضويّة لذيذة. وحين لاحظت دخولي عمق الليل على غير انتباه اكتشفت أنّي كنت غارقة في الفراش، في العتمة، في رائحة الياسمين، في الوقت المعلّق على خشبة انتظار اللقاء به، في الرغبة التي تثيرها الذكرى ويغذّيها الحلم.
من نافذة غرفتي لا أرى إلاّ أعلى خيمة الياسمين، ولكنّني كنت قادرة على تخيّل زهراتها البيض الصغيرة وهي تتناثر كالنجوم فوق سطح المياه. لم يكن تحت الخيمة مياه، ولكنّ الزهرات الصغيرة النحيلة توزّعت على الفسحة الباطونيّة الرماديّة في مشهد تكرّر عشرات المرّات في اليوم حتّى حفظت ذاكرتي إيقاعه. وفي كلّ مرّة كنت أسأل نفسي هل يكون مصير عاطفتي نحوه كمصير هذه الزهرات ذات القامة الرقيقة والرائحة الجارحة والتي ستكنسها الريح في أيّ وقت؟
الموت وحده قادر على إعادتي إلى روح الأشياء وجوهرها. هو المؤتمن على رغباتي وأحلامي، وحده قادر على إعادتي إلى النسغ الجاري منذ ملايين السنين في شرايين الحياة.
في ذلك الليل الأيلوليّ الغريب، خرجت إلى الحديقة مستجيبة نداء يهمس لي ويغريني. أردت أن أستسلم لملاك الرحمة الجميل ليضعني في الحركة المنسابة بين الريح والشجرة، بين الحشرة الدابّة على التراب وخيالها الملتصق بالأرض، وفي خوف الهرّة التي تعبر الطريق لتصل إلى مستوعب النفايات، وفي دموع تلك الشابّة العائدة وحيدة في سيّارتها العتيقة إلى بيت خيّل إليّ أنّه بلا رجل.
لم تكن رغبة الاستسلام تلك نابعة من يأس أو حزن أو تعب بل كان ثمّة حاجة ملحّة إلى الذوبان في حركة كلّ ما في الكون، إلى الانصهار في تنفّس الكائنات والتماهي مع رغباتها وميولها وجنونها. ولم أستطع في تلك اللحظة المختصرة الزمن إلاّ أن أنام في حضن الموت ليعيدني إلى جوهر الأشياء.
لم يعد يكفي أن أقترب منه، أن أدخل فيه ويدخل فيّ، أن أعرف في ما يفكّر وماذا يحبّ، أن ألمس جلده، أن أحفظ إيقاع تنفّسه، أن أحفظ تغيّرات الرائحة المشعّة من مسامه، أن أنجب أطفاله، أن أسمع شهقة الألم عندما يصل شوقه إلى ذروة توهّجه، أن أكتشف كلّ يوم نموّ أفكاره المعربشة بفرح وأمل نحو شموس لا تنطفئ. لم أعد أريد أن ألتصق به، ولا الذوبان فيه، أريد أن أولد منه، ولن أولد إن لم أمت، فالموت وحده هو الذي يعيدني إلى جوهر الأشياء.
غادر الناس القصر المتداعي المتقوقع في زاوية العتمة. لكنّ ذلك لم يزعجني. فأنا أحبّ المنازل الخالية المتروكة لأناس كثيرين يقيمون في مخيّلتي وأريدهم أن يرحلوا لأنجب سواهم. وها القصر الذي يملكه أمير عربيّ يحاول التماسك والوقوف في مواجهة بيتنا الأبيض الصغير. ولكنّ خلوّه من الناس يملأ ليلي بالاحتمالات، وأبوابه المقفلة على رائحة العمر وحشرات الليل ورطوبة الذكريات تفتح في ذاكرتي نوافذ الزمن لتخرج منها أصوات الذين عبروا في محيطه من مهندسين وعمّال ومقيمين وزائرين، بكلّ الأحلام التي رافقتهم وبكلّ الأحزان والأفراح والخيبات والنجاحات والكره والحبّ والانتظار.
تمتلئ المسافات القليلة التي تفصلني عن القصر بازدحامهم، وتعود وجوههم من تعب النسيان لتعبر فوق أسوار القصر باحثة عن أمكنتها ولحظات وجودها. وتمتلئ اللحظات القليلة التي جمّدتني أمام القصر بأعمار قضاها أصحابها وهم يحلمون بغير ما يملكونه. ينادونني من غربة أيّامهم وبرودة غربتهم، وأرغب في الموت لعلّني أصير مثلهم فأقفز فوق أسوار القصر وأتجوّل بحريّة بين غرفه التي لا أعرفها وألتقي الذين ناموا فيها، وفيها عشقوا وخانوا واختبأوا وماتوا.
أريد أن ألتقيه، أريده أن يكون البيت المتروك لأحلامي وهواي وجنوني. أريد أن أولد منه وفيه، ولن أولد منه إن لم أمت فيه.