حين ينام الهرّ
كانت المعلّمة المنتهية مدّة صلاحيّاتها على موعد مع نوعين من المسؤولين الإداريّين في دولتنا المهترئة: صندوق التعويضات الخاصّ بالمعلّمين في المدارس الخاصّة، والمجلس البلديّ لبلدتها البليدة. وكلا الموعدين يتعلّق بموضوع الصرف، الأوّل صرف تعويضات نهاية الخدمة والثاني الروائح الكريهة المنبعثة من أنابيب الصرف الصحيّ. وما بين الانتظار والانصراف، والتفكير في كيفيّة صرف التعويض وفي كيفيّة التصرّف مع واقع التربية والتعليم العالي في حكومة هي أقرب إلى تصريف الأعمال والأفعال، ومع الجرذان التي تتنزّه آمنة سالمة على خطوط التوتّر العالي (كذلك)، خطر للمعلّمة ضرورة تخصيص يوم للصرف الصحيّ يحتفل فيه الموظّفون المصروفون والمنصرفون من أعمالهم بنجاتهم من الموت قهرًا ومذلّة، وتحتفل فيه الجرذان باحتلالها سطح الأرض بعدما أحكمت سيطرتها على البنى التحتيّة. ففي صندوق التعويضات لا أحد يقف للمعلّم ليفيَه التبجيل، ولا أحد يقول له نشكرك باسم الوطن والإنسان على جهودك في تربية النشء. ولكنْ في مبنى الصندوق معلّمون ومعلّمات لا يعرفون ما إذا كانت المدرسة التي يعملون فيها سدّدت عنهم ما يتوجّب عليها أم لا، ولا يعرفون إن كانت تعويضاتهم ستصرف لهم أم لا، ولا يعرفون إن كانت ستعطى لهم كاملة أم منقوصة. وفي مبنى صندوق التعويضات يكتشف المعلّم أنّ تعويض نهاية خدمته لا يسمح له بشراء بيت أو أرض أو تأمين آخرة صالحة، فيتذكّر آلاف التلاميذ الذين علّمهم ويقول في نفسه: راتب كلّ واحد منهم في سنة أكبر من هذا المبلغ المطبوع على الشيك المصرفيّ والذي هو خلاصة عمر كامل.
ينتهي الموعد الأوّل، وتسرع المعلّمة "السابقة" إلى بيتها لتستقبل أعضاء المجلس البلديّ الذين وعدوا بالقيام بجولة في البلدة في هذا اليوم بالذات لمعالجة وضع أنابيب الصرف الصحيّ بعد خمسة أعوام من الشكاوى. في سيّارة الأجرة، تحاول أن تخطّط لآتي أيّامها، ثمّ تقرّر أن تحصر تفكيرها في موضوع الروائح الكريهة التي تثير غثيانها لمجرّد تذكّر مواعيدها الثلاثة كلّ يوم: صباحًا وظهرًا ومساء. كأنّها وصفة طبيب، تقول ساخرة. وتقسم بأنّها مستعدّة للتنازل عن حفلات التكريم في مناسبة انتهاء عملها التربويّ، وعن الوسام الذي قد يفكّر بعضهم بالمطالبة لها به، شرط ألاّ تجرح أنفاسَها بعد اليوم تلك الروائحُ التي تثبت كم يمكن الإنسان أن يكون قذرًا على رغم استحمامه ثلاث مرّات في اليوم. وتشعر بالاختناق وهي تتذكّر أنّها ستصل مع موعد الظهيرة لضخ المياه المبتذلة من المستشفيات والأبنية الفخمة والثكن العسكريّة، التي تصبّ كلّها في أنابيب أثريّة تعود إلى زمن كانت بلدتها "بيتين وتنّور"، فضلاً عن مخالفات لا تحصى تجعل الشبكة عاجزة عن تحمّل ما يسكب فيها من قاذورات.
يقتحم ذاكرتها منظر الجرذ النافق الذي وجدته قبل يومين أمام باب البيت وأخذت له صورة تذكاريّة بكاميرا هاتفها الخلويّ. بالطبع تذكّرت رواية "الطاعون" لألبر كامو ومشهد الطبيب الذي رأى عند الصباح الجرذ النافق أمام بيته. فرحت لأنّ الوباء قد يحلّ المشاكل السياسيّة وترسيم الحدود (لن يقترب أحد من حدودنا عند ذاك) وسلاح المقاومة وفضائح الوزارات وشهود الزور والشهادات المزوّرة، ويوحّد قلوب المواطنين حول همّ مشترك لا يميّز بين طائفة وأخرى أو بين حزب وحزب. فكّرت في أن تتصل بالبلديّة ذلك اليوم، ولكنّها تخيّلت اللهجة الساخرة التي ستقول لها حتمًا: لا تبالغي، فقد تكون سيّارة صدمته، أو تناول سمًّا وضعه الجيران. هل تتّصل بوزارة الصحّة؟ لا شكّ في أنّهم سيطلبون منها أن تتّصل إن رأت جرذًا نافقًا آخر، وعند ذلك قد يكون ثمّة ما يريب (فرحت لأنّها بعد نهاية عملها في التعليم وجدت فرصتها الذهبيّة في رصد الجرذان). ثمّ تقرّر أن تسكت عن الأمر، فلعلّ الجرذ انتحر من قرفه ممّا رآه وتنشّقه. ثمّ يؤنّبها صوت ضميرها الذي لم يخرس على رغم خيباتها من قضايا الوطن التي فسدت بمرور الزمن: ولكن ماذا لو كان الطاعون يكمن فعلاً في جيفة هذا الحيوان الصغير القبيح؟ إن سئلت، ولن تُسأل، ستقول للبلديّة بسخرية: "صحّ النوم"، كنتم مشغولين بتقديم مسرحيّة فنيّة راقية فلم أشأ تعكير جوّ الفرح في مهرجانكم الفنيّ، ووجدت من الجميل أن يرقص الناس فوق المسرح وأن تسرح الجرذان تحته. وللحكومة ستقول بلؤم: كنتم مشغولين بمقاومة إسرائيل التي هي سرطان الأمّة فهل ألهيكم بطاعونها؟ ولمن يعنيه الأمر، لم يتناه إلى سمع المعلّمة السابقة أنّ أعضاء المجلس البلديّ أتوا لدرس واقع الحال، علمًا أنّ الروائح الكريهة لا تزال تنفجر من باطن الأرض ثلاث مرّات يوميًّا لـ"تبشّر" بوباء يجعل الناس يتمنّون نزول النار والكبريت، وبالتأكيد لن يتناهى إلى سمعها أنّها ستكرّم على عملها في حقل التربية.
*****
ينتهي الموعد الأوّل، وتسرع المعلّمة "السابقة" إلى بيتها لتستقبل أعضاء المجلس البلديّ الذين وعدوا بالقيام بجولة في البلدة في هذا اليوم بالذات لمعالجة وضع أنابيب الصرف الصحيّ بعد خمسة أعوام من الشكاوى. في سيّارة الأجرة، تحاول أن تخطّط لآتي أيّامها، ثمّ تقرّر أن تحصر تفكيرها في موضوع الروائح الكريهة التي تثير غثيانها لمجرّد تذكّر مواعيدها الثلاثة كلّ يوم: صباحًا وظهرًا ومساء. كأنّها وصفة طبيب، تقول ساخرة. وتقسم بأنّها مستعدّة للتنازل عن حفلات التكريم في مناسبة انتهاء عملها التربويّ، وعن الوسام الذي قد يفكّر بعضهم بالمطالبة لها به، شرط ألاّ تجرح أنفاسَها بعد اليوم تلك الروائحُ التي تثبت كم يمكن الإنسان أن يكون قذرًا على رغم استحمامه ثلاث مرّات في اليوم. وتشعر بالاختناق وهي تتذكّر أنّها ستصل مع موعد الظهيرة لضخ المياه المبتذلة من المستشفيات والأبنية الفخمة والثكن العسكريّة، التي تصبّ كلّها في أنابيب أثريّة تعود إلى زمن كانت بلدتها "بيتين وتنّور"، فضلاً عن مخالفات لا تحصى تجعل الشبكة عاجزة عن تحمّل ما يسكب فيها من قاذورات.
يقتحم ذاكرتها منظر الجرذ النافق الذي وجدته قبل يومين أمام باب البيت وأخذت له صورة تذكاريّة بكاميرا هاتفها الخلويّ. بالطبع تذكّرت رواية "الطاعون" لألبر كامو ومشهد الطبيب الذي رأى عند الصباح الجرذ النافق أمام بيته. فرحت لأنّ الوباء قد يحلّ المشاكل السياسيّة وترسيم الحدود (لن يقترب أحد من حدودنا عند ذاك) وسلاح المقاومة وفضائح الوزارات وشهود الزور والشهادات المزوّرة، ويوحّد قلوب المواطنين حول همّ مشترك لا يميّز بين طائفة وأخرى أو بين حزب وحزب. فكّرت في أن تتصل بالبلديّة ذلك اليوم، ولكنّها تخيّلت اللهجة الساخرة التي ستقول لها حتمًا: لا تبالغي، فقد تكون سيّارة صدمته، أو تناول سمًّا وضعه الجيران. هل تتّصل بوزارة الصحّة؟ لا شكّ في أنّهم سيطلبون منها أن تتّصل إن رأت جرذًا نافقًا آخر، وعند ذلك قد يكون ثمّة ما يريب (فرحت لأنّها بعد نهاية عملها في التعليم وجدت فرصتها الذهبيّة في رصد الجرذان). ثمّ تقرّر أن تسكت عن الأمر، فلعلّ الجرذ انتحر من قرفه ممّا رآه وتنشّقه. ثمّ يؤنّبها صوت ضميرها الذي لم يخرس على رغم خيباتها من قضايا الوطن التي فسدت بمرور الزمن: ولكن ماذا لو كان الطاعون يكمن فعلاً في جيفة هذا الحيوان الصغير القبيح؟ إن سئلت، ولن تُسأل، ستقول للبلديّة بسخرية: "صحّ النوم"، كنتم مشغولين بتقديم مسرحيّة فنيّة راقية فلم أشأ تعكير جوّ الفرح في مهرجانكم الفنيّ، ووجدت من الجميل أن يرقص الناس فوق المسرح وأن تسرح الجرذان تحته. وللحكومة ستقول بلؤم: كنتم مشغولين بمقاومة إسرائيل التي هي سرطان الأمّة فهل ألهيكم بطاعونها؟ ولمن يعنيه الأمر، لم يتناه إلى سمع المعلّمة السابقة أنّ أعضاء المجلس البلديّ أتوا لدرس واقع الحال، علمًا أنّ الروائح الكريهة لا تزال تنفجر من باطن الأرض ثلاث مرّات يوميًّا لـ"تبشّر" بوباء يجعل الناس يتمنّون نزول النار والكبريت، وبالتأكيد لن يتناهى إلى سمعها أنّها ستكرّم على عملها في حقل التربية.
*****
جريدة النهار - الثلثاء - 2 تشرين الثاني 2010
هناك تعليقان (2):
نحن مصروفون و تحت التصرّف و مُتصرّف بنا و علينا و رغما عنّا... ذلّ صرف.
تحياتي
أضحكتني وشرّ البليّة ما يضحك. أحببت تصرّفك بالكلمات ولمت نفسي لأنّ ما كتبته لم يخطر على بالي. تحيّاتي
إرسال تعليق