كنّا مجموعة صاخبة مؤلّفة من ثلاث عشرة امرأة وثمانية أطفال، في عين داره حول مائدة الصباح. وكان ذلك في أوّل أيّام الفطر: فالزمن إذًا إسلاميّ، والمكان في حماية الدروز، والسيّدات مارونيّات استغللن يوم العطلة للقاء. قريبات وصديقات فيهنّ الصحافيّات والمدرّسات والموظّفات وربّات المنزل والأمّهات، يلتقين حين تسنح لهنّ ظروف الحياة والعمل. هنادي استأجرت المنزل منذ أوّل الصيف هربًا من حرّ الساحل: بيت مرتفع فوق الطريق، يواجه جبل الباروك المكسو غابات تشيع بعض الأمل في إمكان مقاومة التصحّر الهاجم من كلّ ناحية. على المائدة ترويقة لبنانيّة هي خليط من نكهات: مناقيش بالصعتر والكشك والجبنة، فول مدمّس، باقات نعنع، بندورة جبليّة، لبنة، زيتون، بيض مقلي، تين، درّاق، وحلويات من إعداد السيّدات (اليوم لا مكان للريجيم والنحافة)، ومشروبات ساخنة وباردة، للقهوة الصدارة بينها، بها تُفتح الصبحيّة، وبها تُختم قبل أن يتمّ التواعد على لقاء جديد في منطقة أخرى.
نجمة اللقاء هي الأمّ الشابّة التي عندها سبعة أولاد، وتريد أن تنجب اثنين بعد لأنّها وعدت خالتها بأن تكون مثلها أمًّا لتسعة أولاد. ونجمة اللقاء المستعدّة للطفل الثامن ستصير جدّة بفضل ابنتها الكبرى المتزوّجة والحامل. حالة نادرة في المجتمع المارونيّ الذي يصرّ الأزواج فيه على الاكتفاء بولدين بذريعة تكاليف الحياة وكلفة المعيشة اللائقة. قالت لها دارين أمّ الصبيان الثلاثة: نحن نفكّر بولد رابع لأنّ المجمع المارونيّ أوصى بأن يتعلّم الولد الرابع مجّانًا في المدارس المارونيّة. قلت لهما: في المجمع المارونيّ المقبل ستعدّل هذه الفقرة وسيتعلّم الولد العاشر مجّانًا. فآباء الكنيسة لم يتوقّعوا أن ينجب أحد أكثر من ولدين. أنتما تخالفان الشريعة.
يقع منزل المضيفة في الطبقة الأولى من المبنى، وللوصول إليه كان علينا العبور في الباحة الخارجيّة لمنزل الطبقة الأرضيّة وهي لأصحاب البناية. صاحب الدار العجوز كان يقف في باحة منزله حين مررنا تباعًا قربه، ويردّ التحيّة بأحسن منها، مطعّمًا كلامه وحديثه عن الطقس بأمثلة شعبيّة وأبيات زجليّة. قميصه الكاكي يعيد إلى ذاكرتي زمنًا مضى، وسقف العقد في منزله المشرع الأبواب يطمئن مسترقات النظر بيننا إلى إلفة المكان وسعته ورحابة صدره. من الواضح أنّ الحرب مرّت من أمام البيت ولم تقتحمه ما سمح له بالنجاة بما فيه من أثاث قديم وحكايات أقدم.
قالت لنا هنادي، مضيفتنا التي تفكّر بالاكتفاء بولدها الوحيد رافضة الاقتناع برأي صديقتها جوسلين نجمة اللقاء، إنّ العمّ يوسف يملك الكثير من الحكايات وإنّها لا تضجر من الاستماع إلى أخباره عن عائلته وعن الضيعة. ابنه راهب مارونيّ احتفل منذ بعض الوقت بمرور خمسة وعشرين عامًا على سيامته كاهنًا. والعمّ يوسف يوزّع على الجيران والأصدقاء كتّيبًا أُعدّ في المناسبة وفيه نبذة عن نشاطات ابنه الراهب.
جوسلين أمّ العائلة الكبيرة آتية من كسروان لتمضي بضعة أيّام في ضيافة صديقتها، واصطحبت معها ثلاثة من أولادها. كان وجودها قريبة من بلاد الشوف مدعاة تأمّل وتفكير، استعدت فيه الماضي البعيد حين أتى الموارنة من الشمال إلى هذا الجبل، والماضي القريب، حين مشى الموارنة إلى دير القمر هاربين من الحرب، واليوم حين نجتمع ونتحدّث عن أنّ الأطفال الثمانية الذين يلعبون ويمرحون ويتشاجرون ويتصالحون خارج الدار لن يبقوا في هذه الأرض وسيهاجرون إن بقي وضع المسيحيين على حاله.
دنيا التي يقيم والدها في إقليم الخرّوب، مستقلّة في منزلها الخاصّ في ساحل جونيه، ولكنّها تحضّر أوراق هجرتها إلى أوستراليا. سميرة تتحدّث عن مواسم العنب والتين في قرية زوجها عين المرج بالقرب من بحمدون وتروي بأسى حكايات معيبة عن المسيحيين الذين يبيعون أراضيهم، ثمّ تجيب على من يسألها عن قرب افتتاح الجامعات والمدارس وماذا اختارت بناتها للدراسة والتخصّص، ميّادة منصرفة لفضّ خلافات الأولاد حين يتشاجرون، وتلتقط الصور، وتحكي عن عملها في المدرسة، سامية تتأكّد من أنّ الجميع تذوّق كلّ ما على الطاولات، وتتناول من حقيبتها مقالات أعجبتها وتدعو الأخريات لقراءتها، غادة تعلن أنّها مجبرة على المغادرة باكرًا لأنّها تلقّت اتصالاً طارئًا يستدعيها إلى العمل لتساعد في الإعداد لمقابلة تلفزيونيّة مع النائب الذي تعمل كمساعدة له، مي الآتية من طرابلس حيث تقيم مذ تزوّجت منذ ثلاثة أعوام تحكي عن الحياة في عاصمة الشمال ذات الطابع السنيّ (اللقاء السابق كان في ضيافتها وحينها أخبرتنا عن تقاليد شهر رمضان كما لم تكن تعرفها). ثمّ يتذكّر الجميع أنّ الهدف من اللقاء هو تغيير الجوّ والابتعاد عن الهموم اليوميّة الضاغطة، فتتكفّل ريتا بالمهمّة حين تضفي أجواء المرح بحكاياتها عن السيّدات اللواتي تلتقي بهنّ بحكم عملها كخبيرة تجميل. أما رنا، الشابّة الصغيرة بيننا، فتراقب بعينين ذكيتيّن ما يجري وتلتقط ما يقال، ولا تدعنا نعلم بما يجول في فكرها. كانت تستكشف عن الشرفة عين دارة الجميلة وتسأل هنادي عن كنائسها وأحيائها، وتأسف لأنّ لها أصدقاء من هنا لن تستطيع رؤيتهم لأنّهم يعملون خلال الصيف في المطعم الذي لا يقفل أبوابه طبعًا يوم العيد.
رؤية الجبل تثير الرغبة في المشي بين أشجار الأرز في محميّة الباروك. هي الرغبة في التشبّث بلبنان الذي نعرفه. ربّما لأنّ والدتي من الشوف، ربّما لأنني أمضيت أيّام ما قبل التهجير عام 1982 في عاليه، ربّما لأنّ جدّي قتل ودفن في الجبل، لا أستطيع إلاّ أن أفكّر في أنّ الخلاص الحقيقيّ للبنان الذي نعرفه لن يتمّ ما لم يكن منطلقه لقاء الجبلين المارونيّ والدرزيّ، ليكونا مظلّة فوق السهل والساحل.
هناك 5 تعليقات:
مش عارف هتصدقينى و لا لأ
بس اللى أقدر اقولهولك أنى بحب لبنان جدا جدا
زى ما يكون بلدى
حبتها مش عارف ليه انا من فترة كنت عاوز أكتب تدوينة عنها
عن حبى و حزنى ليها و عليها
معقول بلد زى لبنان تبقى كده
لبنان و ناس لبنان كانوا بالنسبة ليا هما الحياة و حب الحياة
عارفة طبعا انا مش عارف هتستقبلى كلام أزااى
بس انا يمكن خدت كلام ماجدة الرومى فى تدوينة قريبة ليا
كنت بقول من خلالها ان مش عاوز يكون فى حرب زى لبنان
البلد الوحيد من طفلتى حلمت ازوره
مش عارف ليه كده
بجد انا معرفش يعنى مارونين و لا دروز و لا و لا
أعرف بس
لبنان
شكرا لكِ
كل سنة و انتِ طيبة
انا اسف المفروض دى كانت تكون اول حاجة
رامي كل عام وأنت بخير، أشكرك على محبّتك لبنان، وأتمنّى أن تتاح لك الفرصة لتزوره، وأن تتحقّق تمنياتك لنا فنعيش بسلام وأمان. حالتنا الطائفيّة تفرض نفسها على حياتنا ولغتنا وكتاباتنا، وأنا ككاتبة أصوّر الواقع. تحيّاتي لك وشكرًا على رسالتك
ما زلت أذكر طرفة تطرقت إليها يوم كنت في اجتماع رياضي للمشائين إذا جاز التعبير- فرقة رياضية تنظم رياضات مشي كل اسبوعين. وكنا مسيحيين ومسلمين ودروز. سألني صديقي الدرزي، لو أكن مسيحيا مارونيا فأي دين أختار من ديانات الموجودين، وهو سؤال محرج أنقذتني منه سرعة بديهتي. قلت:أختار أن أكون درزيا? وتابعت مجيبا على لماذا، قائلاً، وكان عيد الفطر قد اقترب: لأن الدروز لا يصومون ويفطرون مع الجميع.
ولي رأي آخر في موضوع ورد في سياق المقالة.
الولد الرابع وتعليمه مجانا: بصيص نور في أزمة متفاقمة: أزمة اقتصادية لا تلقى حلولا، والأمور تتفاقم. في الغرب يدفع كل مواطن ضريبة المدارس أكثر من ألفي دولار سنويا، وبهذا تتأمن مدارس مجانية(Public school).
والطبابة تحل مشكلتها بشركات الضمان، ومعيشة المتقاعدين تتكفل بها الحكومة الفدرالية بناء على دفوعات سنوية دفعها المواطنون قبل بلوغ سن التقاعد، وبالطبع العمل والوظائف متوفرة رغم الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. الكنيسة في لبنان تحاول إضاءة شمعة، أما تأمين حياة كريمة للمواطن فهي عمل الدولة الغائبة في مجتمع لا أدري إن هو دولة أم لا.
كما الرحابنة ليسوا ملك آل الرحباني وحدهم، فإن لبنان بيت المعرفة ومنبت الخير، هو وجه العرب وأهل المشرق جملة ، وبه وحده نفاخر ونفتخر. أنظري هذه الروح اللبنانية المفعمة بالفطنة والمحبة والروح "الرياضية" ل(Fr. Hanna ) كيف دخلت دين جنبلاط.
لهذا نعشق لبنان وأهل لبنان. حماكم الله.
إرسال تعليق