أيها الكاتب ماذا تعني لك الموسيقى وماذا تحب منها؟
كلها أو بعضها موروث أو مرتجل من دون استعداد
بين الفنون كافّة، تفاعل مؤكدّ. التفاعل الأبرز والأكثر تواشحاً وامتداداً في التاريخ، وربما حتى يومنا هذا، هو ما يجمع بين الشعر والموسيقى. الأحرى، ما يجمع ما بين الموسيقى والغناء من جهة، والكتابة الإبداعية على وجه العموم، من جهة ثانية. الحقيقة أن هذا التفاعل يُرضيني، ويشغلني ويحفّزّ من اهتمامي الشخصي المتواضع بالشعر والموسيقى على السواء، ومن رغبتي الملحاحة الدائمة للوقوف على آراء أقران لي في هذا الشغف الثنائي الفتنة، خصوصاً أننا في وقت لم تعد فيه المكابرة تُجدي في حقيقة أن الموسيقى والغناء ليسا في أحسن حالاتهما، ومركب الفن الجميل يكاد يُغرق الجميع إذا لم تُحسن أدارة دفته.
ليس في سؤالنا عن علاقة الكتّاب والشعراء بالموسيقى والغناء: أيّ الأنواع يُحبّ وأيّ الأصوات يسمع، أيّ عملية تلصّص مجانية، الغاية هي الوقوف على علاقة قوية أو أقلّ قوة بين الحرف والنغم، وتوخيّ معرفة أمزجة كتّابنا لجهة علاقته بتراث بلده الفني أو تخطيه الى سماع الموسيقات الغربية بتفرعاتها كافّة. عن علاقة بعض الشعراء والكتّاب سألنا كلا من الشاعرة الأردنية زُليخة أبو ريشة، والكاتبة الشاعرة اللبنانية ماري قصيفي، والكاتب الروائي المصري خالد الخميسي، والكاتب المغربي (يعيش في لبنان ) راوي المرنيسي، والشاعرة المصرية جيهان عمر، وكانت حصيلتنا هذه الإجابات ذات الصلة العميقة بموضوعنا هنا:
زليخة أبو ريشة: بيت موسيقى
الشاعرة زليخة أبو ريشة لا تكاد تفرّق في أجابتها أو لا تعرف غلبة الأسبقية لعلاقتها بالحرف أو بالنغم، وهي هنا قصّت علينا الحكاية من أولّها الى آخرها:
ًلما كنتُ رضعتُ الشعر مع حليب الأم؛ فأبي شاعرٌ، وكذلك جدي وإخوتي جميعاً، وأبناء وبنات العمومة، فإنَّ الميل الفطريَّ للموسيقى قد وجد تحققه، خصوصاً أنَّ بيئة أسرتي المتصوّفة تُعنى عنايةً خاصةً بالنشيد، حيث هو طقسٌ أساسيٌّ في حلقة الطريقة اليشرطية. لقد فتَّحتُ عينيَّ إذاً على الشعر والنشيد الصوفي والموسيقى العربية في مقاماتها المتنوعة من صبا ونهوند وسيغا وبيات وحجاز وشارغا وفارسي وغيرها، والتي كانَ يعزفها على العود والدي عبد الرحمن، رحمه الله. أضيف إلى ذلك أنَّ أذني حظيت بتهذيبٍ مبكِّرٍ وصقلٍ ومران بسبب الأصوات الشجيَّة التي كانت حولي، صوت والدي الذي يشبه إلى حدٍّ كبير صوت القارئ المصري الشيخ محمد رفعت، وصوت والدتي آمنة الذي كان رقيقاً وحيياً، وأصوات إخوتي في النشيد وتجويد القرآن يحيى وأحمد، وصوت شقيقتي الصغرى هيفاء الذي هو مزيج رائع من فيروز وأم كلثوم.، بالإضافة إلى أصوات عدد من المريدين الذين كانت تعلو في حلقة الذكر وتُجَلّي. وحضرتُ في وقتٍ مبكر نقاشات فنية في الموسيقى العربية، حيث كانت عمتي سارة أيضاً عالمةً من علماء عصرها بها.
هذه هي المنابع الأولى لعلاقتي بالموسيقى العربية. ولما تبلورَتْ ذائقتي مستقلَّةً عن محيطي، افتُتِنتُ، وما أزال، بموسيقى الرحابنة وصوت فيروز. وكان هذا الافتتان طاغياً بحيثُ لم أتذوَّق ما كانت بناتُ جيلي وأبناؤه يتذوقونه، مثل عبد الحليم ونجاة وشادية وفايزة أحمد. بل إني كنتُ مستقلِّةً عن ذائقة أهلي في حبِّ أم كلثوم وعبد الوهاب، اللذين لم أنتبه إليهما إلا بعد وفاة أم كلثوم.
وعلى هذا فإنَّ الموسيقى تحفُّني أينما كنتُ؛ في البيت ومع الأهل وفي منتدياتها. كما أنَّ حضور العروض الموسيقية الراقية مطلبٌ كنت أسعى إلى تحقيقه أينما سافرت. واقتناء تسجيلاتٍ لموسيقى البلد الذي أزور أمر حرصتُ عليه حرصي على زيارة متاحف الفنون المعاصرة والمكتبات فيه، وذلك من أجل اكتمال الصورة الثقافية لهذا البلد لديَّ.
ليس في سؤالنا عن علاقة الكتّاب والشعراء بالموسيقى والغناء: أيّ الأنواع يُحبّ وأيّ الأصوات يسمع، أيّ عملية تلصّص مجانية، الغاية هي الوقوف على علاقة قوية أو أقلّ قوة بين الحرف والنغم، وتوخيّ معرفة أمزجة كتّابنا لجهة علاقته بتراث بلده الفني أو تخطيه الى سماع الموسيقات الغربية بتفرعاتها كافّة. عن علاقة بعض الشعراء والكتّاب سألنا كلا من الشاعرة الأردنية زُليخة أبو ريشة، والكاتبة الشاعرة اللبنانية ماري قصيفي، والكاتب الروائي المصري خالد الخميسي، والكاتب المغربي (يعيش في لبنان ) راوي المرنيسي، والشاعرة المصرية جيهان عمر، وكانت حصيلتنا هذه الإجابات ذات الصلة العميقة بموضوعنا هنا:
زليخة أبو ريشة: بيت موسيقى
الشاعرة زليخة أبو ريشة لا تكاد تفرّق في أجابتها أو لا تعرف غلبة الأسبقية لعلاقتها بالحرف أو بالنغم، وهي هنا قصّت علينا الحكاية من أولّها الى آخرها:
ًلما كنتُ رضعتُ الشعر مع حليب الأم؛ فأبي شاعرٌ، وكذلك جدي وإخوتي جميعاً، وأبناء وبنات العمومة، فإنَّ الميل الفطريَّ للموسيقى قد وجد تحققه، خصوصاً أنَّ بيئة أسرتي المتصوّفة تُعنى عنايةً خاصةً بالنشيد، حيث هو طقسٌ أساسيٌّ في حلقة الطريقة اليشرطية. لقد فتَّحتُ عينيَّ إذاً على الشعر والنشيد الصوفي والموسيقى العربية في مقاماتها المتنوعة من صبا ونهوند وسيغا وبيات وحجاز وشارغا وفارسي وغيرها، والتي كانَ يعزفها على العود والدي عبد الرحمن، رحمه الله. أضيف إلى ذلك أنَّ أذني حظيت بتهذيبٍ مبكِّرٍ وصقلٍ ومران بسبب الأصوات الشجيَّة التي كانت حولي، صوت والدي الذي يشبه إلى حدٍّ كبير صوت القارئ المصري الشيخ محمد رفعت، وصوت والدتي آمنة الذي كان رقيقاً وحيياً، وأصوات إخوتي في النشيد وتجويد القرآن يحيى وأحمد، وصوت شقيقتي الصغرى هيفاء الذي هو مزيج رائع من فيروز وأم كلثوم.، بالإضافة إلى أصوات عدد من المريدين الذين كانت تعلو في حلقة الذكر وتُجَلّي. وحضرتُ في وقتٍ مبكر نقاشات فنية في الموسيقى العربية، حيث كانت عمتي سارة أيضاً عالمةً من علماء عصرها بها.
هذه هي المنابع الأولى لعلاقتي بالموسيقى العربية. ولما تبلورَتْ ذائقتي مستقلَّةً عن محيطي، افتُتِنتُ، وما أزال، بموسيقى الرحابنة وصوت فيروز. وكان هذا الافتتان طاغياً بحيثُ لم أتذوَّق ما كانت بناتُ جيلي وأبناؤه يتذوقونه، مثل عبد الحليم ونجاة وشادية وفايزة أحمد. بل إني كنتُ مستقلِّةً عن ذائقة أهلي في حبِّ أم كلثوم وعبد الوهاب، اللذين لم أنتبه إليهما إلا بعد وفاة أم كلثوم.
وعلى هذا فإنَّ الموسيقى تحفُّني أينما كنتُ؛ في البيت ومع الأهل وفي منتدياتها. كما أنَّ حضور العروض الموسيقية الراقية مطلبٌ كنت أسعى إلى تحقيقه أينما سافرت. واقتناء تسجيلاتٍ لموسيقى البلد الذي أزور أمر حرصتُ عليه حرصي على زيارة متاحف الفنون المعاصرة والمكتبات فيه، وذلك من أجل اكتمال الصورة الثقافية لهذا البلد لديَّ.
ماري قصيّفي: الآلة الواحدة
لماري قصيّفي، علاقة مزاجية صرفة بالسماع بشكل عام، موسيقى كانت أو غناء، علاقة غير ممنهجة، وغير خاضعة لشروط وأفضليات، بل تُمليها أحوال القلب ورغباته، وحالات الروح في طمأنينتها أو في كربها، تقول ماري:
«يتحكّم مزاجيّ بعلاقتي بالموسيقى والغناء. أحبّ الموسيقى بجميع أنواعها: الشرقيّة والغربيّة، ولا وقت محدّدًا لأيّ منها أو لنوع من أنواعها. قد يدغدغ سمعي الجاز صباحًا مع فنجان قهوة وجريدة في مطعم أنيق، أو يطربني صوت أم كلثوم ظهرًا لأهرب عبره من ازدحام الحياة، وصوت فيروز ليلاً مع أنّ الإذاعات تبثّ أغنياتها عند الصباح ولو كانت الأغنية: سهار بعد سهار. حين أكون مكتئبة أحتاج إلى أغنيات عبد الحليم في الأفلام ولو كان بعضها حزينًا كأنّ حزن تلك الأيّام أكثر شاعريّة من حزننا العقيم، وحين أكون مبتهجة أرتاح لصوت صباح في مسرحيّاتها القديمة وهو فيها يشبه احتفال الشعانين، أمّا صوت وديع الصافي في «رح حلّفك بالغصن يا عصفور» فينقلني إلى عالم ميشال طراد الجميل. أحبّ الأغنيات الفرنسيّة القديمة المليئة بالشعر، والأميركيّة المجبولة بالإيقاع. ولكن لا شيء يمنع أن أستسلم لساعات لناي جوزف أيّوب أو قانون إيمان حمصي. فأنا أفضّل في الموسيقى الاستماع إلى آلة واحدة ولا أحتمل غالبًا عجقة الفرق السيمفونيّة. ولكن في كلّ الأحوال الاستماع إلى الموسيقى أو الغناء لا يمكن أن يتمّ مع أيّ عمل فكريّ أو ذهنيّ آخر، فالأمر يحتاج إلى كثير من الانتباه والمشاركة كما في أيّ طقس مقدّس. ومع ذلك، فلا غرابة في أن تمرّ أيّام، أرفض فيها الاستماع إلى أيّ نوع من الموسيقى والأغنيات، كأنّ جمالها قد يشوّهه ما يحيط بي من ضجيج السيّارات والجرّافات والكسّارات والتصريحات.
خالد خميسي: ثلاثون سنة
الكاتب والروائي المصري خالد خميسي «إرهابي الهوى» بكل ما يتعلق بالغناء الكلاسيكي المنتج في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، ويجد استحالة ذهنية في متابعة ما أنتج من جديد، مع استثناءات لأصوات قليلة جديدة قادرة، تُذكرّ بالقديم، عن علاقة الخميسي هذه جاءتنا الإجابة التالية:
«دار حوار عنيف بيني وبين صديق للعائلة تخطى الثمانين من العمر اتهمنى فيه بأنني منزوع عن واقعي لأنني لا أستمع للغناء الذي تم إنتاجه خلال العقود الأربعة الأخيرة. أعلن دائما لأصدقائي بلا فخر ولا شعور بالعار أنني أستمع فقط للغناء المصري الذى تم إنتاجه فى الفترة الممتدة من 1930 إلى 1970. أجد صعوبة ذهنية فى تلقي الأغنية المصرية التي تم إبداعها قبل عام 1930. وبعد هذا التاريخ أجد استحالة ذهنية للاستماع لما ظهر خلال الأربعين عاما من 1970 إلى بداية 2010. بالطبع الاستثناءات تثبت دائما القاعدة. فسيد درويش هو الاستثناء لما قبل عام 1930. ومحمد منير وعلى الحجار هما الاستثناء لمرحلة ما بعد 1970. لا أنكر أنني أعجبت بأغنية هنا ولحن هناك خلال الأربعين عاما الماضية ولكن ذلك يدخل ولا شك في عالم الاستثناء. كان سبب الحوار هو إعجاب صديقي بعمرو دياب وعدم تقديري الخالص له. وتوقعت أن ينتهي الأمر في أنه خلاف بسيط في الذوق لا يفسد للود قضية. ولكن أصر صديقي على الخوض في تفاصيل الموضوع وبدأ يسألني عن فلان وفلانة من المغنين ووجدني لا أعرفهم وهم رموز هذا العصر في الغناء. حاولت أن أشرح له وجهة نظري:
يبدو لي يا سيدي الفاضل أن الموسيقى هي أكثر الفنون حساسية ورهافة في تأثرها بأزمة الوطن. أزمة الهوية التى طالما تحدثنا عنها وأزمة حضارتنا وأزمة كينونتنا، أجدها كلها تبزغ بوضوح الشمس من كل لحن استمعت إليه منذ عام 70 وحتى الآن. الموسيقى هي التجسيد الدقيق للشعور الوطني. يمكنني القول إن المحتوى الثقافى للموسيقى هو الرابط الأساسي بين المواطن ـ الإنسان وثقافته. فهي تتشكل وتشكل اللاوعي الجماعي، كما تشكل النسيج المشاعري للعالم الذي نعيشه والذي يحدد هويتنا. في مرحلة ما بعد ثورة 1919 تجلى حلم تشكل الوطن مع الوعي الحر بصياغة مشروعنا الثقافي العام. وانطلقت الآلات الموسيقية والحناجر تعزف عصارة وجداننا. تدفقت مصر بكل زخمها في كل مازورة موسيقية داخل كل لحن. وبزغت قامات موسيقية طاولت السماء، أمثال محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي والقصبجي والسنباطي وزكريا أحمد ومنير مراد وغيرهم الكثير وصدح المطربون لا يحد صوتهم حد وكأن العالم رهن إشارتهم وعرض المحيط غير كاف لعرض أصواتهم. وماجت أرواحنا معهم وتشكلت بهم ومعهم هويتنا. وبدأت بعد يوليو 52 مرحلة أخرى من مشروعنا الوطني وظهرت قامات عملاقة جديدة كالطويل والموجي وبليغ وغيرهم كثير. عبروا جميعا وبكل صدق عن جرس روح هذا الوطن بتشكيلاته المختلفة.
راوي المرنيسي: وطن واحد
راوي المرنيسي ليس أنه «فاهم « موسيقى من الدرجة الممتازة فحسب، بل يُتابع شغفهُ هذا، درساً ويوُليه جهداً كما لو الموسيقى بالنسبة له، تعويض مُربح عن إقامة في بلد ليس بلده، أو كما لو الموسيقى وطن ثان:
«من سنين، عشت شبه وحيدٍ في بيروت، وصدفةً عرفت بتمارين سماع الموسيقى الكلاسيكية كل اثنين لاتيان كوبليان في المركز الثقافي الفرنسي (لا زلت استمتع بفكرة أني كنت الشاب الوحيد، بينما أصغر المواظبين كان في الخمسين). كان يتخلل الشرح عن الموسيقى الكلاسيكية مقطوعات عديدة لزم وقت طويل لجمعها. صرت أحضر حفلات موسيقى الحجرة يوم الخميس في قاعة بيار أبي خاطر وحفلات الأوركسترا الوطنية أيام الجمعة في كنيسة اليسوعيين. هذه كلها كانت دورية ومجانية – وإلا ما كنت لأحضر أي منها – وكانت حفلات أخرى تعقد في الاسمبلي هول في الجامعة الأميركية في بيروت، أكثرها مجاني أيضاً. وصرت أهوى الموسيقى الكلاسيكية. كنت قبل مجيئي إلى بيروت قد نجحت في امتحان الصف السابع من مادة القيثارة في معهد موسيقي خاص في مدينة القيروان بتونس، على مقربة من الجامع، وكنت في بيروت أواظب ليلاً، بعد دروس الجامعة، على عزف مؤلفات القيثارة لرودريغو، فرناندو سور، فيلا لوبوس وغيرهم. يومَ قرأت عن استضافة معهد سرفانتس لكبار العازفين من اسبانيا وأميركا اللاتينية ضمن سلسلة أمسيات لعزف القيثارة في الاسمبلي هول - على مدى يومين أو أكثر، لم أعد أذكر - بقيت لأسبوعين أتمرن يومياً ضعف عدد الساعات، في اعتقادٍ خفيٍّ مني بأن التمارين على بعض المقطوعات الواردة في البرنامج سيجعل تجربة سماعها، الفريدة بذاتها، في مصاف آخر. ثم اكتشفت عوالم باخ ومسرّاته وصدف أن قرأت لفؤاد التكرلي عن ليليّات شوبان، فجمعت ثلاثين دولاراً أذكر واشتريتها بعزف كلاوديو أرراو الاستثنائي. وتعرفت على صوت فاتح نصرت علي خان. وأماليا رودريغز وغوغوش الآسرتين. كانت الموسيقى آنذاك جزء أساسياً من عالمي الداخلي وخففت من وحدتي في مدينة غريبة ومنعت عني الكثير من التفاهات والقسوة.
جيهان عمر: تخريب
للشاعرة المصرية جيهان عمر، علاقتها بالموسيقى والغناء، ولها عنهما حكاية تحكيها لنا هنا:
« الحياة بدون الموسيقى.. محض خطأ هكذا أؤمن مع نيتشه واعتبرها جزءا بديهيا من علاقتي بالحياة ولكنني لم أفكر في هذه العلاقة إلا حينما كنت استعد للذهاب لكوريا الجنوبية في منحة أدبية لمدة ستة أشهر إذ كيف سأحيا بدون موسيقاي المفضلة.
على جهاز اللاب توب, وضع لي احد الأصدقاء كل ما يقطع على الحنين إلى مصر والموسيقى الشرقية. ولكنني كنت أفكر في شيء آخر, لماذا لا اترك نفسي لاكتشاف هذا العالم الجديد بموسيقاه التي لا اعلمها في هذا الجانب الآخر من العالم ؟ ومع ذلك لم يطاوعني قلبي في ترك فيروز وعبد الوهاب, سيلين ديون, بوتشيللي ورحمانينوف.
وهناك شاهدت فيلما كوريا كلاسيكيا وكانت البطلة الجميلة تغني «بانسوري» وهوالغناء التقليدي الكوري, الذي يحكي غالبا قصة حب بصوت قوي وجميل بمصاحبة الطبل, فأحببت «البانسوري» وصرت أتتبع عروضه النادرة... وعلمت كم يحبون الغناء ويقدرون الصوت الجميل.
وفي احد العشاءات - التي كانت تضم ادباء من مختلف الجنسيات - اقترح احدهم أن يغني كل أديب جزءا من أغنية بلغته الأصلية, استمتعت بغنائهم, على اعتبار أنني أجهز اعتذارا حين يحين دوري, ولكنهم لم يقبلوا عذر عدم إجادة الغناء, وإن ادعيت هناك إصابتي بالبرد مثلا, ستكون عربة الإسعاف بانتظاري! فوجدتني اغني لفيروز أغنية أحبها.. وتظاهرت كمحتالة أنني أحفظ كلماتها بإتقان, وزادتني إيماءات الإعجاب ثقة, فتماديت في تخريب اللحن الجميل ليتناسب و قدراتي المحدودة... ومع صخب التصفيق كنت اهمس لفيروز أن تسامحني على هذا الذنب الكبير.
الكاتب والروائي المصري خالد خميسي «إرهابي الهوى» بكل ما يتعلق بالغناء الكلاسيكي المنتج في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، ويجد استحالة ذهنية في متابعة ما أنتج من جديد، مع استثناءات لأصوات قليلة جديدة قادرة، تُذكرّ بالقديم، عن علاقة الخميسي هذه جاءتنا الإجابة التالية:
«دار حوار عنيف بيني وبين صديق للعائلة تخطى الثمانين من العمر اتهمنى فيه بأنني منزوع عن واقعي لأنني لا أستمع للغناء الذي تم إنتاجه خلال العقود الأربعة الأخيرة. أعلن دائما لأصدقائي بلا فخر ولا شعور بالعار أنني أستمع فقط للغناء المصري الذى تم إنتاجه فى الفترة الممتدة من 1930 إلى 1970. أجد صعوبة ذهنية فى تلقي الأغنية المصرية التي تم إبداعها قبل عام 1930. وبعد هذا التاريخ أجد استحالة ذهنية للاستماع لما ظهر خلال الأربعين عاما من 1970 إلى بداية 2010. بالطبع الاستثناءات تثبت دائما القاعدة. فسيد درويش هو الاستثناء لما قبل عام 1930. ومحمد منير وعلى الحجار هما الاستثناء لمرحلة ما بعد 1970. لا أنكر أنني أعجبت بأغنية هنا ولحن هناك خلال الأربعين عاما الماضية ولكن ذلك يدخل ولا شك في عالم الاستثناء. كان سبب الحوار هو إعجاب صديقي بعمرو دياب وعدم تقديري الخالص له. وتوقعت أن ينتهي الأمر في أنه خلاف بسيط في الذوق لا يفسد للود قضية. ولكن أصر صديقي على الخوض في تفاصيل الموضوع وبدأ يسألني عن فلان وفلانة من المغنين ووجدني لا أعرفهم وهم رموز هذا العصر في الغناء. حاولت أن أشرح له وجهة نظري:
يبدو لي يا سيدي الفاضل أن الموسيقى هي أكثر الفنون حساسية ورهافة في تأثرها بأزمة الوطن. أزمة الهوية التى طالما تحدثنا عنها وأزمة حضارتنا وأزمة كينونتنا، أجدها كلها تبزغ بوضوح الشمس من كل لحن استمعت إليه منذ عام 70 وحتى الآن. الموسيقى هي التجسيد الدقيق للشعور الوطني. يمكنني القول إن المحتوى الثقافى للموسيقى هو الرابط الأساسي بين المواطن ـ الإنسان وثقافته. فهي تتشكل وتشكل اللاوعي الجماعي، كما تشكل النسيج المشاعري للعالم الذي نعيشه والذي يحدد هويتنا. في مرحلة ما بعد ثورة 1919 تجلى حلم تشكل الوطن مع الوعي الحر بصياغة مشروعنا الثقافي العام. وانطلقت الآلات الموسيقية والحناجر تعزف عصارة وجداننا. تدفقت مصر بكل زخمها في كل مازورة موسيقية داخل كل لحن. وبزغت قامات موسيقية طاولت السماء، أمثال محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي والقصبجي والسنباطي وزكريا أحمد ومنير مراد وغيرهم الكثير وصدح المطربون لا يحد صوتهم حد وكأن العالم رهن إشارتهم وعرض المحيط غير كاف لعرض أصواتهم. وماجت أرواحنا معهم وتشكلت بهم ومعهم هويتنا. وبدأت بعد يوليو 52 مرحلة أخرى من مشروعنا الوطني وظهرت قامات عملاقة جديدة كالطويل والموجي وبليغ وغيرهم كثير. عبروا جميعا وبكل صدق عن جرس روح هذا الوطن بتشكيلاته المختلفة.
راوي المرنيسي: وطن واحد
راوي المرنيسي ليس أنه «فاهم « موسيقى من الدرجة الممتازة فحسب، بل يُتابع شغفهُ هذا، درساً ويوُليه جهداً كما لو الموسيقى بالنسبة له، تعويض مُربح عن إقامة في بلد ليس بلده، أو كما لو الموسيقى وطن ثان:
«من سنين، عشت شبه وحيدٍ في بيروت، وصدفةً عرفت بتمارين سماع الموسيقى الكلاسيكية كل اثنين لاتيان كوبليان في المركز الثقافي الفرنسي (لا زلت استمتع بفكرة أني كنت الشاب الوحيد، بينما أصغر المواظبين كان في الخمسين). كان يتخلل الشرح عن الموسيقى الكلاسيكية مقطوعات عديدة لزم وقت طويل لجمعها. صرت أحضر حفلات موسيقى الحجرة يوم الخميس في قاعة بيار أبي خاطر وحفلات الأوركسترا الوطنية أيام الجمعة في كنيسة اليسوعيين. هذه كلها كانت دورية ومجانية – وإلا ما كنت لأحضر أي منها – وكانت حفلات أخرى تعقد في الاسمبلي هول في الجامعة الأميركية في بيروت، أكثرها مجاني أيضاً. وصرت أهوى الموسيقى الكلاسيكية. كنت قبل مجيئي إلى بيروت قد نجحت في امتحان الصف السابع من مادة القيثارة في معهد موسيقي خاص في مدينة القيروان بتونس، على مقربة من الجامع، وكنت في بيروت أواظب ليلاً، بعد دروس الجامعة، على عزف مؤلفات القيثارة لرودريغو، فرناندو سور، فيلا لوبوس وغيرهم. يومَ قرأت عن استضافة معهد سرفانتس لكبار العازفين من اسبانيا وأميركا اللاتينية ضمن سلسلة أمسيات لعزف القيثارة في الاسمبلي هول - على مدى يومين أو أكثر، لم أعد أذكر - بقيت لأسبوعين أتمرن يومياً ضعف عدد الساعات، في اعتقادٍ خفيٍّ مني بأن التمارين على بعض المقطوعات الواردة في البرنامج سيجعل تجربة سماعها، الفريدة بذاتها، في مصاف آخر. ثم اكتشفت عوالم باخ ومسرّاته وصدف أن قرأت لفؤاد التكرلي عن ليليّات شوبان، فجمعت ثلاثين دولاراً أذكر واشتريتها بعزف كلاوديو أرراو الاستثنائي. وتعرفت على صوت فاتح نصرت علي خان. وأماليا رودريغز وغوغوش الآسرتين. كانت الموسيقى آنذاك جزء أساسياً من عالمي الداخلي وخففت من وحدتي في مدينة غريبة ومنعت عني الكثير من التفاهات والقسوة.
جيهان عمر: تخريب
للشاعرة المصرية جيهان عمر، علاقتها بالموسيقى والغناء، ولها عنهما حكاية تحكيها لنا هنا:
« الحياة بدون الموسيقى.. محض خطأ هكذا أؤمن مع نيتشه واعتبرها جزءا بديهيا من علاقتي بالحياة ولكنني لم أفكر في هذه العلاقة إلا حينما كنت استعد للذهاب لكوريا الجنوبية في منحة أدبية لمدة ستة أشهر إذ كيف سأحيا بدون موسيقاي المفضلة.
على جهاز اللاب توب, وضع لي احد الأصدقاء كل ما يقطع على الحنين إلى مصر والموسيقى الشرقية. ولكنني كنت أفكر في شيء آخر, لماذا لا اترك نفسي لاكتشاف هذا العالم الجديد بموسيقاه التي لا اعلمها في هذا الجانب الآخر من العالم ؟ ومع ذلك لم يطاوعني قلبي في ترك فيروز وعبد الوهاب, سيلين ديون, بوتشيللي ورحمانينوف.
وهناك شاهدت فيلما كوريا كلاسيكيا وكانت البطلة الجميلة تغني «بانسوري» وهوالغناء التقليدي الكوري, الذي يحكي غالبا قصة حب بصوت قوي وجميل بمصاحبة الطبل, فأحببت «البانسوري» وصرت أتتبع عروضه النادرة... وعلمت كم يحبون الغناء ويقدرون الصوت الجميل.
وفي احد العشاءات - التي كانت تضم ادباء من مختلف الجنسيات - اقترح احدهم أن يغني كل أديب جزءا من أغنية بلغته الأصلية, استمتعت بغنائهم, على اعتبار أنني أجهز اعتذارا حين يحين دوري, ولكنهم لم يقبلوا عذر عدم إجادة الغناء, وإن ادعيت هناك إصابتي بالبرد مثلا, ستكون عربة الإسعاف بانتظاري! فوجدتني اغني لفيروز أغنية أحبها.. وتظاهرت كمحتالة أنني أحفظ كلماتها بإتقان, وزادتني إيماءات الإعجاب ثقة, فتماديت في تخريب اللحن الجميل ليتناسب و قدراتي المحدودة... ومع صخب التصفيق كنت اهمس لفيروز أن تسامحني على هذا الذنب الكبير.
جريدة السفير - الأربعاء - 31 آذار 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق