وأنا كذلك الأم الحزينة
يوم الجمعة الحزينة، ينفجر الحزن في الإذاعات والتلفزيونات والبيوت والكنائس، فيذهب "المؤمنون" إلى رتبة دفن المسيح وهم يرتدون ملابس الحداد، ويتسابق الرجال لحمل نعش المصلوب، وتقرأ الأناجيل الأربعة التي تصف مشهد الصلب والموت (لماذا لا تقرأ أناجيل أربعة يومي الميلاد والقيامة؟)، وتدمع العيون حين تصدح الأصوات المرنّمة "أنا الأمّ الحزينة".
هذا نحن، شرقيّون نحتفل بالموت، ولا نعرف كيف نحيا، وإلاّ لكنّا تذكّرنا أنّ كلّ أمّ ترغب في أن تصرخ من صميم القلب: وأنا كذلك الأمّ الحزينة وما من يعزّيها:
أنا الأم الحزينة التي لا تملك ثمن الدواء لابنتها المريضة/
أنا الأمّ الحزينة التي تعجز عن تسديد قسط المدرسة/
أنا الأمّ الحزينة التي لا تعرف إن كانت مستقرّة في عملها أو ستطرد عند نهاية الشهر/
أنا الأمّ الحزينة التي هاجر ولدها ليبحث عن أمنه وأمانه وطعامه خارج بلده/
أنا الأمّ الحزينة التي تعرّض أولادها للاعتداء على حقوقهم وأجسادهم وعقولهم في المؤسسات الدينيّة ولن يشفي جرحها اعتذار أو أسف/
أنا الأمّ الحزينة التي قتل أولادها في حروب الآخرين/
أنا الأمّ الحزينة التي خُطف وحيدها ولا تعرف إن كان عليها أن تبكيه ميتًا أو أسيرًا معذّبًا/
أنا الأمّ الحزينة التي تنظر إلى إعاقة ولدها وتشعر بالذنب لأنّها عاجزة عن اجتراح معجزة شفائه/
أنا الأمّ الحزينة التي تبيع كرامتها كي تشتري قوت عائلتها/
أنا الأمّ الحزينة التي تتسوّل على الطرق/
أنا الأمّ الحزينة التي لم تنفعها ثروتها في حماية ابنها من الإدمان والانتحار...
هل أتابع؟
كثيرات هنّ الأمّهات الحزينات، ولكن ليس لجميعهنّ إيمان مريم وثقتها بأنّ لها من يواسيها في السماء وكذلك على الأرض، وليس صحيحًا القول عنها: وما من يعزّيها. وهل تعدم معزيًّا من اختارها الآب أمًّا لابنه، والتي لم تتخلّ عنها السماء لا في حياتها ولا عند انتقالها إليها؟ ولكن ماذا عن سائر الأمّهات؟ ومن يعزّيهنّ خصوصًا في هذا الشهر الذي يُحتفل فيه بيوم المرأة العالميّ وعيد الأمّ وعيد الطفل وعيد البشارة؟
يجب ألا يشغلنا حزن مريم عن أحزان مثيلاتها من الأمّهات، بل لعلّه يفتح أعيننا على مآسيهنّ وآذاننا على تنهّداتهنّ، إذ كيف يمكن أن تقتنع السماء بمظهر الأسى على وجوه الناس تضامنًا مع امرأة لم يعاصروها ولم يعرفوها وعاشت منذ أكثر من ألفي سنة وكانت تعرف مصير ابنها، في وقت يتعامى كلّ واحد منهم عن آلام من حوله. يكاد الأمر يبدو تمثيليّة كبرى لولا العَشرة الصالحون. لذلك يبدو الاحتفاء بمريم في عيد البشارة المفترض أن يجمع المسيحيّين والمسلمين (ماذا عن أبناء الطائفة الإنجيليّة؟؟ هل سئلوا عن رأيهم في الموضوع؟؟) غريبًا حين ننتبه إلى أنّ المسلمين لا يرون فيها الأمّ الحزينة لأنّ ابن ستنا مريم لم يصلب بل شبّه لهم أنّهم صلبوه، في حين أنّ ابن السيّدة العذراء صلب ومات وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب. فهل نتّفق على مريم السعيدة بابنها ونختلف على مريم الثكلى؟
لا أستطيع شخصيًّا أن أرى مريم كما صوّرها التقليد أو كما صوّرتها الأفلام. فالفتاة العذراء التي قالت للملاك: فليكن لي بحسب قولك، وآمنت بأنّها ستحبل من الروح القدس، لا يمكن أن تكون أمومتها ليسوع وتتلمذها عليه قد جعلاها أقلّ إيمانًا وبالتالي أكثر تفجّعًا بسبب رفضها المصير الذي كان من المفترض أنّها وابنها ويوسف ينتظرونه. طبعًا ذلك لا يعني أنّها قتلت إحساس الأمومة فيها نحو ابنها، ولكنّها لن تكون مريم/ والدة الإله/ أمّ الله/ إن لم يكن حزنها على البشريّة أكبر وأعمق. ونحن، إن لم نسمع في ترنيمة "أنا الأم الحزينة" صدى لأحزان أمّهات الأرض كلّها فإنّما نحن صنوج ترنّ ونحاس يطنّ، ولن نخدع السماء بأصواتنا مهما بدت جميلة.
صحيفة النهار - الثلاثاء 30 آذار 2010
هناك 4 تعليقات:
this is great, I like it! I am myself not supportive of the this common holiday of the annunciation. I would like to say, however, that protestants/evangelicals would have no issue celebrating the annunciation since they read the gospel of Luke in which it is recorded. It is a common misconception in Lebanon to think that protestants deny everything we believe regarding Mary.
شكرًا على رأيك يا غير معرّف، يسرّني مرورك على مدوّنتي وتسجيل ملاحظتك. ما قصدته بالإشارة إلى البروتستانت أنّهم يختلفون مع الكاثوليك والأورثوذكس حول هذا الأمر.
هل تسمحين أن أقدم لك قلما هدية?
قلما حروفه مميزة، لإكتشف ما كتبتي به أيتها الساحرة.
هل تكتبين بالأقلام? الكلماتك قواميس?
عابر سبيل
مر، توقف لحظة
وسار حالماً
العصر غير العصر يا ستي، والفهم تعجّى على الفهم..
عصر هجر فيه خميس الأسرار جمعة الألام..
وابن البقرة السعيد هو الذي يولد في الصوم فيبقى له لبن أمه.
وعزاؤنا أن لنا (ماري ـ نا) التي تفرحنا حتى بالوجع.
إرسال تعليق