"الثورجيّ" لنمر فريحة: رواية الأحلام المنكسرة في الوطن الكذبة
الأدباء والقيّمون على دور النشر يخطئون حين يظنّون أ نّالطريقة الوحيدة للتعريف بالكتب هي عبر مجموعة من الصحافيّين والنقّاد الذين يكتبون في صفحات ثقافيّة لا يقرأها إلاّ المعنيّون بالشأن الثقافيّ، أو من خلال حفلات تواقيع يدعى إليها الاهل والاصدقاء والزملاء ولا يلبيها الا المهتمون وهؤلاء اهل العرس وليسوا في حاجة الى دعوة. وقد تكون الطريقة الانسب لنشر الكتاب وجعل الثقافة في متناول من يتكاسل في طلبها هي في حمل الكتب الى المدارس ودعوة الكتاب الى منابر المؤسسات التربوية حيث تقام حلقات الحوار والمناقشة بين الكاتب والمعلمين والتلامذة.
اعود للتذكير بهذا الطرح الذي سبق ان دعوت اليه اكثر من مرة، في مناسبة صدور رواية "الثورجيّ" لنمر فريحة، عن "دار النهار"، اذ كلّما قلّبت صفحة من صفحات الكتاب تخيّلت، وأنا المنغمسة في الهمّ التربويّ، أنواع الأسئلة التي سيطرحها تلامذة المرحلة الثانويّة على الكاتب، خصوصًا أنّ الرواية تحكي سيرة مراهق ثائر كما هم التلامذة في هذه المرحلة من العمر، وكم أرغب في الاستماع الى آراء تلامذة المدارس وطلاب الجامعات حول النهاية التي وضعها الروائي لبطله المنكسر. هذه المناقشة المتخيلة في ذهني اليست هي ما كان يفعله "جميل"، بطل الرواية، في العائلة والمدرسة والقرية والمدينة والجامعة والحزب؟ أليست هذه أهداف الكتابة: أن تدفع القراء الى طرح الاسئلة والتفتيش عن الاجوبة لا ان يحفظوها ويردّدوها كالببغوات؟ ألن تكون ندوة مناقشة في الجامعة أو المدرسة أو النادي الثقافي أحبّ على قلب نمر فريحة، وأي كاتب معنيّ بالهموم الوطنية التربوية الثقافية، من حفلة توقيع رسمية تفرضها ضرورات النشر في وطن لا يعرف الناس فيه بأمر صدور كتاب إلاّ عبر هذا النوع من المناسبات الاجتماعية – الثقافية؟
وحين أدعو الى جعل هذه الرواية مادة لمناقشة في المدرسة أو الجامعة فإنّما أدعو الى إعادة الاعتبار الى منابر المدارس والجامعات وتحويلها خلايا تفكير وتحليل، تطرح فيها مختلف أنواع الاسئلة من دون محاذير أو رقابة أو أحكام مسبقة. فكيف اذا كانت الرواية تقدم مواد دسمة فيها تركيبة غنيّة متآلفة في سياق طبيعيّ غير مفتعل من المواضيع التي تخطر على بال أي شاب يسعى الى تحقيق وجوده في هذا الوطن: القرية، العائلة، الحب، الجنس، العلم، الفقر، الفكر العقائدي، الحرب، الموت، الهزيمة، الثقافة، المدرسة، الجامعة، الوطن، الهجرة، الصداقة، العمل. كلّها وسواها ينساب عفوية في سيرة شاب اكتشف انه يريد ان يساهم في تغيير المجتمع نحو الافضل (أليست هذه حال كثيرين منا؟)، فكان انكسار الحلم عنيفا (اليس هذا ما اصاب الذين حاولوا التغيير بالفكر والعلم والثقافة؟) امام الفساد المستشري في النفوس والنصوص.
لا يستطيع قارئ الرواية أن يتناسى تجربة نمر فريحة الشخصية في العمل الوطني والرسمي وهو يتابع ما تعرّض له بطله من ظلم واعتداء وحرمان، لا بل يسهل على العارف بالامور ان يكتشف الاشخاص المقصودين بهذه الاوصاف او تلك النعوت. ولكن الكاتب يعرف بحكم التجربة والمعاناة ان قارئ روايته، ان كان من اهل الفكر الاصفياء والحالمين الانقياء، لا بد مر بهذه التجربة واختبر المعاناة التي حفرت في الفكر والوجدان. ثم، هل من مسؤول أو زعيم أو حزبي لا يشبه بشكل او بآخر أولئك الموصوفين في الرواية؟
ان نمر فريحة لا يريد ان يكتب رواية تهتم بشكلها فقط، وهو لا يسعى الى لفت الانتباه بتركيبة روائية غرائبية تستدعي التفكيك. لا بل اراه راغبا في ان يحذر مباشرة وصراحة من ان الفساد الذي اصاب كل شيء قضى على امكان الحلم بالتغيير وهو اسوأ ما يصيب شعبا. فالوطن الذي اكتشفه "جميل" خلال مسيرته في الحياة والعمل والحزب لا يشبه ما قرأ عنه في الكتب. هو الوطن/ الكذبة. هو قبر الثورة، من أجله وبسببه خسر الارض والوالدين والسمعة والحبيبة والعمل والمستقبل والامان. حتى أنّ جميلا فقد الثقة بالاجيال الجديدة الآتية واعتبر أنّها تحمل فسادًا موروثًا لا بدّ له من أعمار كثيرة كي يطهر ويتنقى. وكأنّ الكاتب هنا يرمي كرة التفاؤل في ملعب المستقبل البعيد على غير كبير أمل منه بأنّ اللاعبين سيحسنون اللعب بروح رياضيّة شريفة.
في بداية الرواية، يطرح جميل سؤالا يطرحه كثيرون منّا: لماذا لم يثر اللبنانيّون خلال الحرب العالميّة الاولى على الأتراك ما داموا سيموتون جوعًا في نهاية الأمر؟ والمضحك المبكي في الجواب الذي وجده جميل أنّ اللبنانيّين، حتّى عندما يقرّرون الثورة على الفساد والظلم، لا يستطيعون إلاّ أن يكونوا فاسدين ظالمين. هذا هو مختصر تاريخ لبنان كما صنعه سياسيّوه وكما أتيح لنمر فريحة أن يكتبه أخيرًا في شفافيّة وحريّة ومسؤوليّة.
اعود للتذكير بهذا الطرح الذي سبق ان دعوت اليه اكثر من مرة، في مناسبة صدور رواية "الثورجيّ" لنمر فريحة، عن "دار النهار"، اذ كلّما قلّبت صفحة من صفحات الكتاب تخيّلت، وأنا المنغمسة في الهمّ التربويّ، أنواع الأسئلة التي سيطرحها تلامذة المرحلة الثانويّة على الكاتب، خصوصًا أنّ الرواية تحكي سيرة مراهق ثائر كما هم التلامذة في هذه المرحلة من العمر، وكم أرغب في الاستماع الى آراء تلامذة المدارس وطلاب الجامعات حول النهاية التي وضعها الروائي لبطله المنكسر. هذه المناقشة المتخيلة في ذهني اليست هي ما كان يفعله "جميل"، بطل الرواية، في العائلة والمدرسة والقرية والمدينة والجامعة والحزب؟ أليست هذه أهداف الكتابة: أن تدفع القراء الى طرح الاسئلة والتفتيش عن الاجوبة لا ان يحفظوها ويردّدوها كالببغوات؟ ألن تكون ندوة مناقشة في الجامعة أو المدرسة أو النادي الثقافي أحبّ على قلب نمر فريحة، وأي كاتب معنيّ بالهموم الوطنية التربوية الثقافية، من حفلة توقيع رسمية تفرضها ضرورات النشر في وطن لا يعرف الناس فيه بأمر صدور كتاب إلاّ عبر هذا النوع من المناسبات الاجتماعية – الثقافية؟
وحين أدعو الى جعل هذه الرواية مادة لمناقشة في المدرسة أو الجامعة فإنّما أدعو الى إعادة الاعتبار الى منابر المدارس والجامعات وتحويلها خلايا تفكير وتحليل، تطرح فيها مختلف أنواع الاسئلة من دون محاذير أو رقابة أو أحكام مسبقة. فكيف اذا كانت الرواية تقدم مواد دسمة فيها تركيبة غنيّة متآلفة في سياق طبيعيّ غير مفتعل من المواضيع التي تخطر على بال أي شاب يسعى الى تحقيق وجوده في هذا الوطن: القرية، العائلة، الحب، الجنس، العلم، الفقر، الفكر العقائدي، الحرب، الموت، الهزيمة، الثقافة، المدرسة، الجامعة، الوطن، الهجرة، الصداقة، العمل. كلّها وسواها ينساب عفوية في سيرة شاب اكتشف انه يريد ان يساهم في تغيير المجتمع نحو الافضل (أليست هذه حال كثيرين منا؟)، فكان انكسار الحلم عنيفا (اليس هذا ما اصاب الذين حاولوا التغيير بالفكر والعلم والثقافة؟) امام الفساد المستشري في النفوس والنصوص.
لا يستطيع قارئ الرواية أن يتناسى تجربة نمر فريحة الشخصية في العمل الوطني والرسمي وهو يتابع ما تعرّض له بطله من ظلم واعتداء وحرمان، لا بل يسهل على العارف بالامور ان يكتشف الاشخاص المقصودين بهذه الاوصاف او تلك النعوت. ولكن الكاتب يعرف بحكم التجربة والمعاناة ان قارئ روايته، ان كان من اهل الفكر الاصفياء والحالمين الانقياء، لا بد مر بهذه التجربة واختبر المعاناة التي حفرت في الفكر والوجدان. ثم، هل من مسؤول أو زعيم أو حزبي لا يشبه بشكل او بآخر أولئك الموصوفين في الرواية؟
ان نمر فريحة لا يريد ان يكتب رواية تهتم بشكلها فقط، وهو لا يسعى الى لفت الانتباه بتركيبة روائية غرائبية تستدعي التفكيك. لا بل اراه راغبا في ان يحذر مباشرة وصراحة من ان الفساد الذي اصاب كل شيء قضى على امكان الحلم بالتغيير وهو اسوأ ما يصيب شعبا. فالوطن الذي اكتشفه "جميل" خلال مسيرته في الحياة والعمل والحزب لا يشبه ما قرأ عنه في الكتب. هو الوطن/ الكذبة. هو قبر الثورة، من أجله وبسببه خسر الارض والوالدين والسمعة والحبيبة والعمل والمستقبل والامان. حتى أنّ جميلا فقد الثقة بالاجيال الجديدة الآتية واعتبر أنّها تحمل فسادًا موروثًا لا بدّ له من أعمار كثيرة كي يطهر ويتنقى. وكأنّ الكاتب هنا يرمي كرة التفاؤل في ملعب المستقبل البعيد على غير كبير أمل منه بأنّ اللاعبين سيحسنون اللعب بروح رياضيّة شريفة.
في بداية الرواية، يطرح جميل سؤالا يطرحه كثيرون منّا: لماذا لم يثر اللبنانيّون خلال الحرب العالميّة الاولى على الأتراك ما داموا سيموتون جوعًا في نهاية الأمر؟ والمضحك المبكي في الجواب الذي وجده جميل أنّ اللبنانيّين، حتّى عندما يقرّرون الثورة على الفساد والظلم، لا يستطيعون إلاّ أن يكونوا فاسدين ظالمين. هذا هو مختصر تاريخ لبنان كما صنعه سياسيّوه وكما أتيح لنمر فريحة أن يكتبه أخيرًا في شفافيّة وحريّة ومسؤوليّة.
النهار - الخميس 18 آذار 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق