إذا كان هدف الصحيفة أن تطلعني على آخر ما جرى في العالم وحتّى لحظة تحوّلها إلى المطبعة فأنا لا أريد أن أقرأها، لأنّني أريد من الصحيفة التي أقرأها أن تقول لي ماذا سيحصل غدًا. ولا يعني هذا الكلام في طبيعة الحال أنّني أنتظر من الصحافيّين أن يتحوّلوا عرّافين ومنجّمين، بل محلّلين لا يكتفون بنقل الحدث بل باستباق حدوثه.
يعلم الجميع أنّ الصحافة الورقيّة أمام أزمة مصيريّة خطيرة، لن تنجو منها إن لم تتحوّل سريعًا إلى أسلوب جديد وثوريّ في مقاربة الأحداث، لا يكتفي بنقل الحدث الذي سيصير قديمًا بعدما بثّه التلفزيون لحظة وقوعه. ولذلك على الصحيفة إمّا أن تقرأ علامات الأزمنة لتعرف أنّ الحدث سيقع أو أن تقرأ الحدث في حدّ نفسه لتعلم قرّاءها بالتبعات والنتائج والتحليلات.
والقيّمون على الصحف يعرفون أنّ كم المشاكل التي تواجههم أكبر وأخطر من أن يستطيع شخص واحد التغلّب عليها: فمن دون الحريّة المسؤولة لا صحافة، ومن دون رؤوس الأموال الكبيرة لا تستطيع الصحافة أن تتحرّر من سلطة الدولة أو سطوة المعلنين، ومن دون الكفاءات العلميّة لا قيمة للصحافة، ومن دون لغة سليمة لن تصل المعلومات واضحة جاذبة فاعلة. فضلاً عن عجز الصحافة عن جذب الأجيال الشابّة حتّى صارت الجريدة مرتبطة بالمتقدّمين في السنّ، في حين تبدو شبكات الإنترنت المنافس الشرس الذي لم يعد يكتفي بالشباب بل صار قادرًا على إغراء فئات عمريّة كبيرة نسبيًّا تجد في مواقع أجنبيّة متحرّرة ما لا تجده في صحافتنا العربيّة المقيّدة.
كانت الصحافة هي المرجع الوحيد الذي يزوّد الناس بالأخبار والتحليلات، وكان الصحافيّون من نخبة أهل القلم ومن العارفين ببواطن الأمور وخفايا الكواليس والقادرين على الوصول إلى أولي الحلّ والربط. وكان الناس يثقون بالصحافيّ الذي لم يكن يتمّ السماح له بالنشر إلاّ بعد تدريب وتعليم مضنيين، ولذلك كان المتابعون ينتظرون مقالته لكي يقرأوها ثمّ يتناقلوها ثمّ يحتفظوا بها.
****
شخصيًّا، صرت نادرًا ما أفعل ذلك الآن، وأشعر في أكثر الأيّام بالخواء الفكريّ لولا أنّني أجد في بعض الكتب الدسمة ما يعوّض هذا النقص.
كنت إلى زمن غير بعيد، أجد في الصحافة ما يغني العقل ويشبع الروح ويثير الرغبة في الكتابة، وكان المقصّ الذي على طاولتي، ولا يشبه مقصّ الرقابة، حاضرًا كي يلبّيني عندما أجد نصًّا يستحقّ الاحتفاظ به والعودة إليه لأستقي منه المزيد من الأفكار. والنصّ الخالد هو الذي يمدّنا بالأفكار الجديدة ولو قرأناه مليون مرّة ولا ينتهي مفعوله مع غروب شمس اليوم. ولذلك أجد الأمر مثيرًا أن تقع أمام عينيّ المقالة/ اللقيا، التي تفرض نفسها عليّ وتعيدني إلى عصر ذهبيّ كانت المقالة فيه عصارة غنيّة تنضح بالفكر وخلاصة مفيدة تختزن عشرات الكتب وثروة لا تنضب على الرغم من حجمها وخضوعها لشروط النشر الصعبة.
ولهذه المقالة شروط ليست تعجيزيّة بقدر ما هي دقيقة: كالجمع بين الفنّ والعلم، وبين الذاتيّة والموضوعيّة، وبين الجديّة والطرافة، وبين السهولة والمستوى، وبين العمق والسلاسة، وبين الفكرة والخيال، وبين العقل والعاطفة. هي المقالة التي تقول لي ما لم أكن أعرفه، أو تقول لي ما أعرفه ولكن بأسلوب لا يشبه أسلوبي، أو هي التي تستفزّني للردّ عليها، أو التعقيب على ما ورد فيها، أو مناقشة كاتبها أو كاتبتها، أو تقليدها، أو التمنّي لو كنت أنا من كتبها.
وكم تكون خيبة أملي كبيرة عندما أقوم بجولتي الصباحيّة على الصحف والمجلاّت باحثة عن نصّي الثمين ولا أوفّق. فأبدو عند ذلك كصيّاد السمك الذي تُخرج له شبكته من البحر حذاء، ثمّ جيفة، ثمّ أسماكًا صغيرة لا تسدّ جوعًا، وحين يفاجئني الفانوس السحريّ عالقًا في الحبال المجدولة أجده صدئًا عتيقًا، والمارد الذي فيه قد غادره إلى غير رجعة.
يعلم الجميع أنّ الصحافة الورقيّة أمام أزمة مصيريّة خطيرة، لن تنجو منها إن لم تتحوّل سريعًا إلى أسلوب جديد وثوريّ في مقاربة الأحداث، لا يكتفي بنقل الحدث الذي سيصير قديمًا بعدما بثّه التلفزيون لحظة وقوعه. ولذلك على الصحيفة إمّا أن تقرأ علامات الأزمنة لتعرف أنّ الحدث سيقع أو أن تقرأ الحدث في حدّ نفسه لتعلم قرّاءها بالتبعات والنتائج والتحليلات.
والقيّمون على الصحف يعرفون أنّ كم المشاكل التي تواجههم أكبر وأخطر من أن يستطيع شخص واحد التغلّب عليها: فمن دون الحريّة المسؤولة لا صحافة، ومن دون رؤوس الأموال الكبيرة لا تستطيع الصحافة أن تتحرّر من سلطة الدولة أو سطوة المعلنين، ومن دون الكفاءات العلميّة لا قيمة للصحافة، ومن دون لغة سليمة لن تصل المعلومات واضحة جاذبة فاعلة. فضلاً عن عجز الصحافة عن جذب الأجيال الشابّة حتّى صارت الجريدة مرتبطة بالمتقدّمين في السنّ، في حين تبدو شبكات الإنترنت المنافس الشرس الذي لم يعد يكتفي بالشباب بل صار قادرًا على إغراء فئات عمريّة كبيرة نسبيًّا تجد في مواقع أجنبيّة متحرّرة ما لا تجده في صحافتنا العربيّة المقيّدة.
كانت الصحافة هي المرجع الوحيد الذي يزوّد الناس بالأخبار والتحليلات، وكان الصحافيّون من نخبة أهل القلم ومن العارفين ببواطن الأمور وخفايا الكواليس والقادرين على الوصول إلى أولي الحلّ والربط. وكان الناس يثقون بالصحافيّ الذي لم يكن يتمّ السماح له بالنشر إلاّ بعد تدريب وتعليم مضنيين، ولذلك كان المتابعون ينتظرون مقالته لكي يقرأوها ثمّ يتناقلوها ثمّ يحتفظوا بها.
****
شخصيًّا، صرت نادرًا ما أفعل ذلك الآن، وأشعر في أكثر الأيّام بالخواء الفكريّ لولا أنّني أجد في بعض الكتب الدسمة ما يعوّض هذا النقص.
كنت إلى زمن غير بعيد، أجد في الصحافة ما يغني العقل ويشبع الروح ويثير الرغبة في الكتابة، وكان المقصّ الذي على طاولتي، ولا يشبه مقصّ الرقابة، حاضرًا كي يلبّيني عندما أجد نصًّا يستحقّ الاحتفاظ به والعودة إليه لأستقي منه المزيد من الأفكار. والنصّ الخالد هو الذي يمدّنا بالأفكار الجديدة ولو قرأناه مليون مرّة ولا ينتهي مفعوله مع غروب شمس اليوم. ولذلك أجد الأمر مثيرًا أن تقع أمام عينيّ المقالة/ اللقيا، التي تفرض نفسها عليّ وتعيدني إلى عصر ذهبيّ كانت المقالة فيه عصارة غنيّة تنضح بالفكر وخلاصة مفيدة تختزن عشرات الكتب وثروة لا تنضب على الرغم من حجمها وخضوعها لشروط النشر الصعبة.
ولهذه المقالة شروط ليست تعجيزيّة بقدر ما هي دقيقة: كالجمع بين الفنّ والعلم، وبين الذاتيّة والموضوعيّة، وبين الجديّة والطرافة، وبين السهولة والمستوى، وبين العمق والسلاسة، وبين الفكرة والخيال، وبين العقل والعاطفة. هي المقالة التي تقول لي ما لم أكن أعرفه، أو تقول لي ما أعرفه ولكن بأسلوب لا يشبه أسلوبي، أو هي التي تستفزّني للردّ عليها، أو التعقيب على ما ورد فيها، أو مناقشة كاتبها أو كاتبتها، أو تقليدها، أو التمنّي لو كنت أنا من كتبها.
وكم تكون خيبة أملي كبيرة عندما أقوم بجولتي الصباحيّة على الصحف والمجلاّت باحثة عن نصّي الثمين ولا أوفّق. فأبدو عند ذلك كصيّاد السمك الذي تُخرج له شبكته من البحر حذاء، ثمّ جيفة، ثمّ أسماكًا صغيرة لا تسدّ جوعًا، وحين يفاجئني الفانوس السحريّ عالقًا في الحبال المجدولة أجده صدئًا عتيقًا، والمارد الذي فيه قد غادره إلى غير رجعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق